< إن أهم عناصر نجاح الاستراتيجية في القطاع الحكومي هو إشراك جميع أصحاب المصلحة في مختلف مراحل التخطيط والتنفيذ والمتابعة والمراقبة والتقويم، كما أن الاستراتيجيات لا تبنى على الخوف والعواطف، بل يتم تأسيسها على توقع ماذا سيحدث، والتعامل معها بناءً على ذلك. وتحقق الاستراتيجية الحكومية جدواها عند ما تسخّر جميع الموارد المتاحة والطاقات والإمكانات على نحو منظم لتحقيق أهداف تخدم المجتمع ككل. وفي المقابل يحدث الفشل لأكثر من سبب، ولعلّ الاعتماد على أحلام وأوهام من خبراء أجانب، همهم الأول والأخير تحقيق الأرباح. أهم أسباب فشل أي استراتيجية. الاستراتيجية كلمة إغريقية تختص بفن قيادة الجيوش، وتطور معناها دلالياً بمرور الزمن لتعبّر عن تحقيق أهداف على مدى زمني طويل، في ظروف تقل فيها المعلومات المؤكدة. أما الإدارة الاستراتيجية فهي مجموعة من القرارات والنظم الإدارية التي تحدد رؤية ورسالة الدولة في الأجل الطويل، في ضوء ميزاتها التنافسية التي تسعى لتنفيذها من خلال درس ومتابعة وتقويم الفرص والتهديدات البيئية وعلاقاتها بالقوة والضعف التنظيمي، وتحقيق التوازن بين مصالح الأطراف المختلفة. إلى ذلك، فالاستراتيجية هي الشبكة التي تربط بين الأهداف والوسائل والأساليب.. لذا من الصعب جداً النجاح من دون استراتيجية واضحة وواقعية ومرنة ومستدامة، وقليلة هي الحكومات التي استطاعت تحقيق أكثر من هدفين أو ثلاثة بحد أقصى، والسبب الرئيس قلة الموارد والقدرات، لأن تلك الأهداف تستنفذ الكثير من قدرات وإمكانات الدولة، وقد نجحت دول عدة في ذلك. وعليه، سنذكر أولاً: الاستراتيجيات الحكومية الناجحة التي يوجد الكثير منها، مثال على ذلك سنغافورة وإنشاء اقتصاد قائم على المعرفة.. ومصر والحد من معدلات وفيات المواليد.. ألمانيا وإعادة بناء شطريها.. السعودية وتحقيق الأمن الغذائي في المناطق القاحلة. ولعل أهم مقومات نجاح تلك الاستراتيجيات استخدامها للموارد المتاحة بكفاءة، وإشراك القوى البشرية الوطنية المحلية في تنفيذ ومتابعة وتقويم الأداء، وتوافر إرادة القيادة لتنفيذها، وفوق كل ما ذكر وضوح في الرؤية ومحدودية في الأهداف. ثانياً: نذكر بعض الاستراتيجيات التي انتهت بكوارث، ومنها مشروع شاه إيران الذي وضع استراتيجية طموحة جداً للتنمية، بالتعاون الوثيق مع الخبراء الأميركيين. كانت الأهداف هي تنفيذ برامج لتسريع وتطوير إيران صناعياً، وتوهم المستشارون والخبراء حينها أنه سنحت لهم فرصة لتحقيق المكاسب الشخصية، وبعضهم سعى إلى تطبيق ما تعلمه في الجامعات. القيادة الإيرانية آنذاك أغفلت أن تحديد الاستراتيجية هو نصف الحل، والتنفيذ هو الجزء الأهم والأصعب، كذلك تجاهلت أن من أهم مقومات النجاح لتنفيذ الاستراتيجية التأكيد على أهمية دور مكونات المجتمع المدني في إيران، وضرورة مشاركته الفاعلة، أفراداً ومؤسسات، في جهود تحقيق الأهداف الاستراتيجية. لم يكن يوجد في إيران صحافة حرة، ولا برلمان منتخب، والتجمعات محظورة، وكانت إيران تفتقر إلى البنى السياسية المرنة التي يمكنها استيعاب وتوجيه الطاقات الاجتماعية المتفجرة بعيداً عن المركز، بل زاد نظام الشاه على ذلك بإغلاق جميع وسائل الأمن وصماماته التي تقود للتنفيس عن الغضب الاجتماعي، ومما زاد الأمر سوءاً انخفاض إنتاج إيران الصناعي بمقدار 50 في المئة، كما ارتفع التضخم إلى 40 في المئة. وعلى رغم إنجاز الكثير من الأهداف، لكن الأخطاء الفادحة كانت واضحة، كما أن توقيت القيام بالإصلاحات لم يكن مناسباً بحسب السفير البريطاني في طهران أنتوني بارسونز، فالشاه اختار أسوأ وقت ممكن للبدء في برنامجه التحديثي الهائل. ودروس التاريخ، مثل أسباب الثورتين الفرنسية والروسية، تعلمنا أن أي مرحلة انتقالية إلى الإصلاح الليبرالي هي أخطر ما يمكن أن يواجه القصر، ولو أن الشاه اختار أوقات الوفرة المالية عند ما كان يسود البلاد شعور بالهناء والاطمئنان إلى طيّات المستقبل لكان الناتج أقل ضرراً بكثير، لكنه اختار الوقت الذي وصلت فيه توقعات الجماهير إلى قمة شاهقة فقط لتواجه بالإحباط. واعترف الشاه عام 1977 أن إيران أفلست، وكانت نتيجة تلك الاستراتيجية كوارث اجتماعية وسياسية واقتصادية أدت إلى انتشار حال عدم الاستقرار في البلاد وزيادة النقمة الشعبية، الأمر الذي أدى إلى الإطاحة به عام 1979. المثال الثاني للاستراتيجية الكارثية هو برنامج الإصلاح الروسي في تسعينات القرن الماضي، وعلى رغم أن الذي أعد صياغة البرنامج من أفضل الاقتصاديين من جامعة هارفارد والبنك الدولي، مع دعم هائل من الحكومات الغربية والأميركية بالمال والخبراء، فقد فشلت تلك الاستراتيجية التي اعتمدت على مبدأ الصدمات، بمعنى صدمات محسوبة يمكن لها أن تحرك الاقتصاد بقوة للتحول من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي خلال فترة قصيرة، مع تقديم الأسعار بسعر السوق، وخفض حاد في الإنفاق العام، واعتماد برامج خصخصة القطاع العام، كل ذلك تحت وهم تحقيق نمو اقتصادي سريع، وأدت تلك البرامج الطموحة على الورق إلى كوارث على الواقع من خلال تبني نظرة قاصرة عن المجتمع الروسي، فانخفض الناتج القومي الروسي بنسبة 50 في المئة، وهذا لم يحدث لأية دولة كبرى في وقت السلم، كما انخفضت قيمة الروبل بمعدل 70 في المئة من قيمته، وارتفعت نسبة الفقر من 10 في المئة إلى 25 في المئة في الاتحاد السوفياتي، كما ساءت الأحوال الاجتماعية وانتشرت الجريمة المنظمة، وأصبحت الدولة بقبضة أيدي أصحاب النفوذ. التجربة الروسية تمثل أفضل الصور التي تظهر الفارق بين السياسات والتصاريح الخادعة، وبين القدرات والتطبيق المعيب.. نعم، من خلال الاستراتيجيات الفاشلة نتعلم كيف نبني النجاح، والقادة الأذكياء يتعلمون من الفشل أكثر مما يتعلمون من النجاح، وكما قالت العرب: العاقل من اتعظ بغيره، والأحمق من اتعظ بنفسه. الخلاصة.. الاستراتيجية الكبرى تعني تحقيق التوازن بين الأهداف والوسائل لتعزيز الأمن، وغالباً يحتاج تحقيق أهداف الاستراتيجية ثمناً باهظاً.. وقلة الشجاعة أو القدرة لدى القيادة غالباً تكون من أهم سمات الفشل القيادي لتحقيق استراتيجية تخدم الوطن. فتنفيذ الاستراتيجية هو نصف النجاح الأصعب، لأن بعض الأجهزة تعاني نقص الرغبة والوسائل والإرادة لتحقيق أجزاء محورية من الاستراتيجية. ختاماً.. بحسب قراءتي للتاريخ لم تنجح أي استراتيجية في القطاع العام اعتمدت على كوادر أجنبية بشكل أساس، بل تحولت إلى كوارث في التاريخ الحديث. لذا، المخطط الاستراتيجي عليه ألا يتجاوز مراحل النمو والتطور، ولا يتوجه إلى محاولة القفز على الحواجز لأن النتائج غالباً تكون كارثية. * كاتب وباحث سعودي.
مشاركة :