في أواخر فبراير الماضي أذاعت قناة البودكاست الشهيرة راديو لاب حلقة عن عالم الكي بوب، ولمن لا يعرف مصطلح كي بوب - K-Pop فهو اختصار لموجة أغاني البوب الكورية التي بدأت على استحياء في تسعينيات القرن الماضي، وظلت تراوح مكانها في وسطها الكوري الضيق، لتُغير لاحقاً على سوقي الموسيقى اليابانية والصينية في عام ٢٠٠٨م، محققةً اكتساحاً هائلاً في عام ٢٠١٢م، حيث تشكلت الحركة في مجملها من مجموعات موسيقية شابة من الفتيان والفتيات، وبشكل مفصول جندرياً، وبأعداد كبيرة في كل مجموعة. في جيلنا كنا مفتونين بالباك ستريت بويز وإن سينك وفايف، وفي الوقت الذي كانت فيه فرقة الفتيات البريطانيات مثل سبايس غيرلز بالأفول وصعود أخرى مثل أُل ساينتس، كانت تتشكل في كوريا الجنوبية فرق تشابه تماماً تشكيلات هذه الفرقة ولكن في اتجاه مختلف، الاتجاه نحو الفانتازيا، بدءاً من الفضاء المخترع للفرق، لخلق الأجواء السحرية وحتى أشكال أعضاء الفرقة من الفتيان والفتيات، والتي بلغت معه اليوم حداً لا يمكنك فيه التفريق بسهولة بين الشاب والفتاة. هناك الكثير من الكلام الذي يمكننا مناقشته عندما يتعلق الأمر بالكي-بوب وتكوينه قاعدة الجماهير من المعجبين، وهو أكثر اتساعاً من أي نشاط موسيقي حول العالم، ما عدا بعض مناطق معينة في التاريخ، مرتبطة بالفرق المنبثقة عن تنويعات موسيقى الروك والتي تشتغل في سياق التنظيم العقائدي والشعائري بأي شكل كان، والتي نوقشت في العديد من الأفلام الأميركية والأوروبية، وهنا تكمن عبقرية حلقة راديو لاب، التي ناقشت جوهر الكي-بوب في كيفية تشكيل نجوم الفرق الشابة، ومن ثم تشكيل الجمهور المفتون، وبالتالي صناعة منطقة الاستثمار التي تجد معها محافظ المنتجين صعوبة كبيرة في استيعاب المبالغ المحصودة دون تورط ضريبي. في حلقة راديو لاب ظهرت فنانة كي-بوب ناجية إن صح التعبير، لتتحدث عن المخفي في عوالم الكي-بوب، والذي لا يبدو غريباً لبعض من يتابعون الموجة، لكن هناك تفاصيل أكثر إثارة للاهتمام برزت في الحلقة، وحتى لا نقع في فخ تكرار ما يمكن للقارئ الكريم سماعه من خلال بودكاست القناة، فسنتجاوز كثيراً مما ذكر في الحلقة ونركز على المخفي الكامن وراء كل ذلك. فرق الكي-بوب الكورية الشابة تتشكل من خلال ما يبدو مساراً طبيعياً في سوق الموسيقى، هناك تجارب أداء، صائد نجوم، أغاني ديمو تجريبية، لكن ما يبدو مختلفاً هو في ندرة تجارب الأداء الجماعية، إذ تتشكل كثير من الفرق من خلال المنتجين وليس من خلال الفنانين أنفسهم الذين قد يكونون مجموعة من الأصدقاء في المدرسة الثانوية ببريطانيا مثلاً، أو شباباً من ضاحية واحدة بأميركا، لكن الأمر في كوريا الجنوبية مختلف، حيث يصمم الفريق من خلال التنوع الذي يعتقد المنتج بضرورته، التقارب العمري، والطول والوزن الضروري لتشكيل فرقة لا تنتمي لعالم الأرض، سماهم الأربعة الرائعون أو السبعة الرائعون كما في عناوين الكوميكس الشهيرة، ما يهم هو أن تحقق الفرقة فكرة الفانتازيا التي تكتسب موسيقى الكي بوب قوتها منها. بعد هذا التشكيل تأتي مرحلة العقد الفني الذي يعتبر حجر الزاوية في الكي بوب، إذ يمتد في مساحتين من الخمس سنوات إلى العشر، وبشروط مختلفة، بعضها معلن وبعضها غير ذلك، تتفق جميعها في تجيير حقوق عدة لصالح شركة الإنتاج، أبسطها منع الفتيان والفتيات من استخدام الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر اللوحية أو غيرها، والالتزام بجدول غذائي صارم، وحضور كل الحصص التدريبية في الرقص والعزف على الموسيقى وورش الكتابة والأداء، ثم تتوسع الشروط إلى حظر العلاقات الغرامية حتى يتجاوز الفتى أو الفتاة عمراً محدداً يقول البعض إنه التاسعة والعشرون، لخلق فضاء واسع للجمهور بأن الفتى س من فرقة ص ما زال أعزباً حيث تبقى الفتيات متعلقات بأمل الارتباط به، والحال نفسها في جانب فرق الفتيات. يمتلك المنتجون ومن خلال أساليب متعددة، قدرة هائلة على الحشد في عوالم الكي بوب، إذ يتم عبر المنتديات الكثيرة، وغرف المحادثة في بعض الشبكات الاجتماعية، اختراق القواعد الجماهيرية وتوجيهها لممارسات معينة في الحفلات الكبرى والمناسبات الموسيقية التي يجتمع فيها عدد كبير من فرق الشباب والفتيات، ولعل أشهر ما علق جرس التحذير من عمليات الحشد هذه، حادثة المحيط الأسود عام ٢٠٠٨ عندما تعرضت فرقة الفتيات SNSD للتجاهل بالكامل من جمهور فرق الشباب للتعبير عن غضبهم من فريق الفتيات الذين يعتقد كثير من المراقبين بأنهن لم يظهرن الاحترام الكافي لفرق الشباب، وهو تقليد آخر ينضم لتقاليد سلطة النافذين في سوق موسيقى البوب الكورية، التي ترى بضرورة التراتيبة والتقسيم القائم على المفهوم الجندري، وهي سلطة في مستوى آخر لها جذورها الموغلة في الثقافة الكورية القديمة. قد يكون من المدهش تصور مثل هذا العالم الموازي، في هذا الوقت الذي تجاوزت فيه فلسفات العدالة والحقوق مساحات كبيرة في التاريخ البشري، لكن الدهشة تكمن في مستوى آخر، هو في تواجد هذا العالم الذي أسميه تجاوزاً العالم السفلي، رغم كل الفانتازيا والجمال المحيط بأولئك الفئران المحبوسة في البانوبتيكون بأعينه المئة التي تراقب كل صغيرة وكبيرة، لأجل فيديو يصل إلى خمس دقائق، يُسر به كسالى على الجانب الآخر من الأرض، لكن من يأبه حقاً، فالعالم فيه مآسٍ كبرى لا تعدو فيه مثل الحكاية، سوى أن تكون بثرة صغيرة على وجهه القبيح.
مشاركة :