لقد انتهى الأمر إذًا، وأخيرًا أُسدِل الستار على أسوأ نسخة من بطولة أمم أوروبا من بين المسابقات الـ15 التي أقيمت حتى اليوم. جاءت البطولة هذا العام رديئة للغاية من حيث مستوى الجودة لدرجة رفعت مستوى فوز ويلز الواهن على بلجيكا المفتقرة إلى الكفاءة، إلى مرتبة الانتصارات الرياضية الكبرى. ومن بين إجمالي 51 مباراة، ربما ستبقى مباراة واحدة فقط، تحديدًا فوز فرنسا على ألمانيا، حية بأذهان الجماهير. والحقيقة أن هذه المباراة لا تعكس المستوى الضعيف الذي ساد باقي لقاءات البطولة. وقد تساءل الكثيرون حول ما إذا كانت البرتغال جديرة بالفوز بالبطولة، لكن من زاوية ما تبدو البرتغال بالفعل الأكثر استحقاقًا للفوز لأنها تعكس بصدق المستوى العام السائد بالمسابقة. خلال البطولة، دفعت البرتغال بلاعبين اثنين نحو الأمام في مقدمة حصن مؤلف من ثمانية لاعبين لم يدخل مرماهم سوى هدف واحد فقط على مدار 420 دقيقة من كرة القدم خلال أدوار التصفيات، في الوقت الذي نجح الفريق في الفوز بمباراة واحدة فحسب خلال الوقت الأصلي على مدار البطولة بأكملها.. مرحبًا بكم أمام الوجه الجديد لكرة القدم الدولية. ورغم أن بعض المنتخبات الصغيرة قدمت بالفعل أداء لافتًا، وسيتذكر أبناء آيسلندا وويلز بطولة «يورو 2016» في فرنسا بكل الحب والفخر، فإن ذلك بدا وكأنه مسمار آخر في نعش كرة القدم الدولية كرياضة مخصصة للفرق النخبوية. ويفرض التساؤل حول الدروس التي خرجنا بها من الناحية التكتيكية من البطولة نفسه طيلة الوقت، لكن المؤكد أن الزمن الآن تغير كثيرًا عما كان عليه الحال عام 1958، عندما كان أربعة لاعبين من الخلف يتقدمون نحو الأمام ليغيروا وجه العالم، بل وتغير كذلك عن عام 1974 عندما أكدت هولندا على فاعلية تكتيك «الكرة الشاملة» الذي اتبعه أياكس وفاينورد. وتبدل الحال أيضًا عما كان عليه عام 1986 ومعجزة خط الظهر المؤلف من ثلاثة لاعبين. وعلى ما يبدو، فإن صلة «يورو 2016» بكرة القدم السائدة على مستوى الأندية كانت غير مباشرة، وبدت نفسية أكثر منها تكتيكية. من جانبه، نجح برشلونة في ظل قيادة جوسيب غوارديولا في شق طريقه نحو كرة الاستحواذ، مع وصول نسبة استحواذه مرارًا إلى 70 في المائة أو أكثر. في بداية الأمر، تملك الذعر الجميع وسارعوا إلى محاولة إيجاد سبل لاستخلاص الكرة من أقدامهم، إلا أنه بعد ذلك وفي أعقاب نجاح إنترميلان في الفوز في دور قبل النهائي ببطولة دوري أبطال أوروبا لعام 2010، أدرك الجميع أن السبيل لهزيمتهم ترك الكرة لهم. وعليه، نجح أسلوب مدرب إنترميلان في ذلك الوقت جوزيه مورينهو - القائم على عدم الاستحواذ في مواجهة أسلوب الاستحواذ الراديكالي الذي انتهجه برشلونة - في إخراج نموذج جديد من رحم المواجهة. الملاحظ أن الفرق المشاركة في بطولة «يورو 2016» بدت حريصة على الاضطلاع بدور رد الفعل. في الحقيقة لقد بدت كثير من المباريات وكأنها معركة بين الجانبين على عدم اتخاذ المبادرة، وكانت أشبه بسباق دراجات بطيء تتبدل فيه الأوضاع من حين إلى آخر. وبذلك أصبحت المباريات القائمة على فريقين يتبادلان الهجمات - الأمر الذي يخلق جو الإثارة الحقيقية بكرة القدم - نادرة لدرجة تقترب من العدم، الأمر الذي تفاقم بسبب مشاركة عدد من الفرق متوسطة المستوى يكمن أقصى طموحها في تكديس ثمانية لاعبين خلف الكرة. ورغم أن الإحصاءات ليست من المؤشرات الدقيقة، فإنه من الممكن الاستعانة بها في هذا الصدد كمؤشر عام. وتكشف الإحصاءات أن 49 في المائة من مباريات البطولة شهدت استحواذ جانب واحد منها على الكرة طيلة 60 في المائة أو أكثر من عمر المباراة، مقابل 37 في المائة من مباريات الموسم الماضي من الدوري الإنجليزي الممتاز، مما يعني أن نصف المباريات كانت عبارة عن هجوم ضد دفاع. إلا أن هذا الأمر لا يمثل مشكلة بالضرورة، فقد استحوذت ألمانيا على الكرة بنسبة 66.8 في المائة أمام فرنسا، وإذا امتلك الفريق المعتمد على رد الفعل فكرة واضحة بخصوص كيفية شن هجوم، مثلما فعلت فرنسا في مارسيليا، فإن التباين في معدل الاستحواذ قد يستمر في تقديم كرة قدم مثيرة. إلا أنه عندما يتمترس فريق ما على نحو مفرط بمنطقة الدفاع، فإن هذا عادة ما يثمر مباراة لا تستحق عناء المشاهدة. ويعد هذا أيضًا أحد أسرار كأس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم، حيث لا يقدم الناس على مشاهدة الجولات الأولى من المسابقة لأنها دون المستوى. وتندر في هذه المستويات الصدمات الكروية التي تمثل شريان الحياة في كرة القدم، حتى خلال المباريات التي تقف خلالها أندية مشاركة بالدوري الإنجليزي الممتاز في مواجهة فرق أخرى ضعيفة، إلا أن الأمر على المستوى الدولي يزداد سوءا لأن الهجمات لا تكون على المستوى الرفيع الذي تظهر به على مستوى الأندية، علاوة على أن ضيق الوقت يجعل من المستحيل الوصول لدرجة من التفاهم المتبادل بين اللاعبين على نحو يعزز أداءهم الجماعي. وقد نجحت ألمانيا في إنجاز ذلك أمام سلوفاكيا لأنها تمتعت بمجموعة جوهرية مبدعة من اللاعبين - توني كروس وتوماس مولر ومسعود أوزيل - الذين لعبوا بجوار بعضهم البعض لسنوات - لكن تبقى هذه الأمثلة نادرة الحدوث. قد ينظر البعض لحديثي هذا باعتباري شخصًا متحيزًا للنخبة، لكن هذا ليس صحيحًا، فالحقيقة تبقى أن الجميع لديهم فرصة للتأهل للبطولات الأوروبية. وكانت الفرق الأصغر.. ويلز وآيسلندا، بل وآيرلندا الشمالية لتتأهل لو أن البطولة كانت تضم 16 فريقًا فقط لأنها أندية جيدة بالفعل. وإذا أخذت فرنسا بجانب أفضل 15 فريق بمرحلة التأهل، فستجد أن الاختلاف الوحيد بين الأندية الـ16 الأخيرة هو مقايضة المجر وآيرلندا مقابل النمسا وجمهورية التشيك: 36 مباراة، معظمها مملة، على امتداد أسبوعين. كما أن حديثي لا يعني الشكوى من الفرق التي تلتزم الدفاع، فمن الطبيعي أن تتمسك الفرق الأضعف بالدفاع، وواجبها أن تسعى نحو أفضل نتيجة ممكنة، وإلا فلن تكون هذه برياضة بالمعنى الحقيقي، لكن عندما يضعف الأداء الهجومي، يصبح الأمر كله مثيرًا للملل. كانت السيطرة في يورو 2016 للأسلوب الذي يعتمد على توليفة من التنظيم الدفاعي الهائل وعدم المجازفة والكرات الطويلة والأداء البدني الهائل وبعض اللمحات من الحظ في اللحظات الحاسمة. وأسفر هذا الأسلوب عن تتويج بطل جديد للقارة الأوروبية وهو المنتخب البرتغالي الذي أحرز اللقب للمرة الأولى بعد تغلبه على نظيره الفرنسي 1/ صفر في المباراة النهائية التي امتدت لوقت إضافي بعد انتهاء الوقت الأصلي بالتعادل السلبي. ولجأ المنتخب الإيطالي للأسلوب نفسه الذي تغلب به المنتخبان الهولندي التشيلي على الإسبان في الدور الأول لبطولة كأس العالم 2014 بالبرازيل عندما خسر المنتخب الإسباني المباراتين، وودع البطولة من الدور الأول. واعتمد المنتخب الإيطالي في مواجهة المنتخب الإسباني على خمسة لاعبين في الدفاع والضغط القوي على لاعبي إسبانيا والسرعة الهائلة في الهجمات المرتدة. إن ما يقصده مقالي حقًا هو إعلان حسرتي على أفضل البطولات الدولية وثلاثة أسابيع ونصف الأسبوع دمرها الجشع والمواءمات السياسية والتفكير الهش ضيق الأفق. ولمجرد أن «يورو 2012» كانت مثيرة للإحباط، فإن هذا لا ينفي أن بطولات «اليورو» الثلاث السابقة كانت ممتازة. وعلينا جميعًا الانتباه إلى أن كرة القدم الدولية تعاني تراجعًا في مستوى جودة الأداء.
مشاركة :