أثار نشر تقرير سير جون تشيلكوت الخاص بالمسؤولية عن مشاركة بريطانيا في غزو العراق عام 2003، وتقويم أسباب تلك المشاركة ونتائجها وإلى أي مدى كانت ضرورية للأمن القومي البريطاني، الكثير من ردود الفعل، ليس فقط داخل المملكة المتحدة، بما في ذلك من جانب جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال الذي كان توني بلير زعيماً له عندما اتخذ قرار المشاركة في الحرب، ولا فقط من الدول «الحليفة» التي قامت قواتها بالغزو، وفي مقدمها الولايات المتحدة، بل على المستوى العالمي، بما في ذلك ردود فعل عديدة داخل المنطقة العربية. وقد بدأ العمل في هذا التقرير منذ العام 2009 عندما شكَّل رئيس الحكومة البريطاني السابق غوردون براون، لجنة التحقيق تلك، وتأخر إصدار التقرير أكثر من مرة. دفع نشر هذا التقرير إلى الواجهة من جديد بجدل لم يخل من استقطاب، لم يكن قد توارى عن الأنظار أو عن الذاكرة، في شأن الغزو والبيئتين الإقليمية والدولية السابقتين لحدوثه، والظروف المصاحبة له، وما نتج منه من انعكاسات لا تزال المنطقة العربية تعاني منها. أول الدروس المستفادة من هذا التقرير يتعلق بأمرٍ ليست له صلة مباشرة بمضمون التقرير بل بطابعه الشكلي والإجرائي، وهو مجال واسع للاستفادة من خبرات هذه التجربة البريطانية في هذا الميدان. والمقصود أن صدور التقرير يعني وجود هامش واسع من الشفافية والقدرة على المحاسبة، وفي ذلك درس مستفاد للكثير من الدول النامية، بما فيها البلدان العربية. وقد يقول البعض أن التقرير يتعلق برئيس وزراء بريطاني سابق، وهو ما يقلل من أهميته باعتباره لا يتناول مسؤولاً رفيعاً في دوائر السلطة في الوقت الراهن. ومع صحة هذا الطرح من حيث المبدأ، تبقى دلالة إصدار هذا التقرير، وما تضمَّنه من استنتاجات محددة وتوجيه اتهامات لشخصية عامة مثل توني بلير، ومن ثم لمسؤولين آخرين كانوا معه في السلطة وقت اتخاذ القرار، والبعض منهم لا يزال في مواقع مؤثرة حتى الآن. ولكن إذا انتقلنا إلى مضمون التقرير، سنجد أنه يعيد إلى الأذهان إحداثيات ملف غزو العراق عام 2003، الذي لم يغلق بعد، ودام التحقيق طويلاً في دوافع ذلك الغزو وعملية اتخاذ القرار في شأنه وما يتصل بكيفية إدارة عملية الغزو ثم إدارة شؤون العراق بعد ذلك وما ترتَّب على ذلك كله بالنسبة إلى العراق والأقاليم التي يعتبر العراق جزءاً منها، بخاصة العالم العربي، والنظام الدولي ككل. على هذه الخلفية، يمثل تقرير جون تشيلكوت دليلاً إضافياً، ولكنه بالتأكيد أكثر أهمية ووزناً من أدلة أخرى ظهرت زمنياً في شكل سابق على الإعلان عنه، على أن العلاقة بين الأسباب المعلنة وقتذاك من جانب الولايات المتحدة وحلفائها، وفي مقدمهم المملكة المتحدة، لاتخاذ قرار الغزو، وبين الحقائق الموجودة على الأرض خلال تلك الفترة، إما منعدمة كلية أو واهية. فبعد أن تأكد أن الأسباب المعلنة لتبرير الغزو، بخاصة من الجانبين الأميركي والبريطاني، كانت عارية تماماً من الصحة، ومنها ما أثير في شأن وجود أسلحة دمار شامل وإخفائها من جانب العراق، وكذلك علاقات «وطيدة» بين العراق وتنظيم «القاعدة»، وهو ما سبق أن كشفت عن خلوه من المصداقية مصادر أميركية وبريطانية وغربية وعربية كثيرة. ولكن تأتي قيمة تقرير تشيلكوت لترسخ لهذه الحقائق بما يضاعف من مصداقيتها، حيث إنه جاء نتيجة تحقيق شامل ومتأنٍ اتبع منهجية موضوعية وعلمية، من جهة، ولتعيد التذكير، من جهة أخرى، بهذا الغزو وبأن القادة المسؤولين عن اتخاذ قرار القيام به لم يتعرضوا حتى هذه اللحظة لمساءلة لها طبيعتها الرسمية وتأثيرها، على الأقل المعنوي الكامل، وإن لم يكن القانوني والقضائي. من هذا المنطلق، جاءت تصريحات بلير السابقة مباشرة إثر صدور التقرير، لتعبر عن محاولة إظهار حنكة سياسية للوقاية مما توقع، عن حق، أن يثيره نشر التقرير من حالة غضب شعبي بريطاني، بل وعالمي، من دوره في ضمان مشاركة بريطانيا مع الولايات المتحدة في غزو العراق. فبينما تجنب بلير الاعتذار في شكل مباشر عن دوره في هذا الشأن، كما تجنب الإعلان عن مسؤوليته عن النتائج السلبية التي تمخَّض عنها الغزو، أرجع على الجانب الآخر قراراته إلى أخطاء في المعلومات الاستخبارية التي عُرضت عليه قبل اتخاذ قرار المشاركة في الغزو، وكذلك الى أخطاء في التخطيط للغزو. إلا أن حديث بلير لم يكن مقنعاً لا لسياسيين شغلوا مناصب رفيعة في الأمم المتحدة وقت الغزو، ولا داخل بريطانيا أو خارجها، ولم يحظ بأي تعاطف لدى أسر الضباط والجنود البريطانيين الذين راحوا ضحية الغزو والحرب التي تلته، والذين طالب بعضهم بمحاكمة رئيس الحكومة الأسبق باعتبار أن ما قام به يعد بمثابة جريمة طبقاً للقانون الدولي. بل إن الولايات المتحدة، التي سعى بلير خلال فترة رئاسته الحكومة البريطانية إلى بناء علاقة تحالف استراتيجي معها، اكتفت على لسان النلطق الرسمي باسم البيت الأبيض بالاعتراف بأن الزمن الذي مرَّ منذ غزو العراق عام 2003 أظهر العديد من الأخطاء التي ارتكبت وأن واشنطن سعت إلى التعلم من دروس الغزو وما تلاه. وهناك اعتباران آخران يتعين تناولهما في هذا المجال. أولهما أن توني بلير هو من أسَّس لعلاقة لا انفصام لها بين لندن وواشنطن. ومن الغريب أن هذه العلاقة التي سعى إليها بلير، الذي جاء إلى موقعه بصفته زعيماً لحزب العمال، المفترض أنه يمثل يسار المشهد السياسي البريطاني، لم تكن مثلاً في عهد إدارة ديموقراطية أميركية بما كان قد يبرر الحرص المستميت على الدخول في علاقة «زواج كاثوليكي» معها، وإنما تمَّت في عهد واحدة من أكثر الإدارات مغالاة في يمينيتها بزعامة جورج بوش الابن وكبار معاونيه من رموز «المحافظين الجدد». ومن المفارقات المثيرة للدهشة أن العلاقة بين لندن وواشنطن في عهد بلير وبوش الابن جاءت لتماثل حالة تاريخية سابقة تمثَّلت في العلاقة بين الراحلة مارغريت ثاتشر رئيسة الحكومة وزعيمة حزب المحافظين من جهة، والرئيسين الجمهوريين رونالد ريغان وجورج بوش الأب من جهة أخرى، وذلك في ثمانينات القرن العشرين. والاعتبار الثاني يتعلق بأن هذه ليست المرة الأولى في الفترة الأخيرة التي يتلقى فيها رئيس الحكومة البريطاني الأسبق اتهامات حادة وصلت إلى حد اتهامه بـ «الكذب» في شأن المعلومات التي قدَّمها إلى الشعب البريطاني لتبرير انضمامه الى الولايات المتحدة في غزو العراق، بخاصة ما يتعلق بوجود أسلحة دمار شامل عراقية، بالإضافة إلى اتهامات أخرى تتعلق بسوء التخطيط والتقدير والإدارة. فقد صدرت شهادات وكتب مهمة تضمنت اتهامات مماثلة أو أكثر حدة، ليس فقط في شأن غزو العراق، بل في ما يتعلق بأدوار أخرى لعبها بلير في مسار حياته كشخصية عامة داخل بريطانيا وخارجها، بما في ذلك وصوله إلى قيادة حزب العمال وتغييره توجه الحزب نحو اليمين، ما أثَّر سلباً في قواعد الحزب في صفوف نقابات العمال وعلاقته التحالفية مع تلك النقابات، وكذلك دوره لاحقاً كمبعوث دولي لعملية السلام في الشرق الأوسط، والذي شغله بعد خروجه من رئاسة الحكومة البريطانية. في الختام، فإن الحديث عن تقرير تشيلكوت سيبقى لبعض الوقت، وحتى حين سيتوارى إلى الخشبة الخلفية للمسرح البريطاني والعالمي، فإنه سينضم إلى رصيد متزايد من الأدلة المتراكمة التي تشير بأصابع الاتهام والإدانة إلى من خطط وشارك في غزو العراق ودوافعه وأهدافه الحقيقية، حتى وإن اعتبر البعض أن هذا الغزو أدى إلى تخليص العراق من حكم انعكست سياساته منذ البداية حتى النهاية سلباً على الشعب العراقي والوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط. كما سيظل هذا التقرير مثالاً على الشفافية والقدرة على المحاسبة لكبار المسؤولين على أخطاء ارتكبوها وأضرَّت بالأمن القومي لبلادهم، رغم أن التقرير لن تترتب عليه أي إجراءات قانونية وقضائية تجاه بلير. * كاتب مصري
مشاركة :