لماذا ينصب البعض أنفسهم كمتحدثين باسم البعض؟ وما الذي تعنيه الإنابة في الكلام من منظور علم اللغة الاجتماعي وتحليل الخطاب؟ سؤلان مهمان طرحهما البروفيسور الفرنسي بيرنارد قارده Bernard Gardin في مقالة باللغة الفرنسية ترجمها إلى العربية الدكتور عبد الله الخطيب. جاء المقال المترجم بعنوان « من أجل دراسة الأخلاقيات اللغوية» وناقش عدة ظواهر ضمن إشكالية «الأخلاقيات اللغوية» والمكوّن الأخلاقي للممارسات اللغوية. من أهم ما طرحه المقال: علاقة السلوكيات العامة والسلوكيات اللغوية بالقيم، تطابق السلوك مع قواعد اللغة وكيف أن اللغة تتشوه على لسان الشخص البذيء ، الخيارات النحوية وعلاقتها بالخيارات الأيدولوجية ، تشكيل الذات كفاعل لغوي، والإنابة في الكلام. استوقفني موضوع الإنابة في الكلام حيث أنه يعكس ظاهرة لغوية-اجتماعية تتناسب مع ذهنية ثقافية لا تقلل من شأن الآخرين اجتماعياً فقط، بل وتحكم عليهم بالعجز اللغوي. لماذا يتم الاعتراف للآخر بهذه المهمة، ومن ثم يوكل إليه الحق في التحدث باسم غيره سواء كان ذلك الآخر فرداً أو جماعة؟ هل لأن الآخر يجيد الكلام، ويُبدع في اختيار الكلمات؟ أو أنه أعلى في الطبقة الاجتماعية؟ أو أنها انتهاكات أخلاقية تتجسد في الإقصاء اللغوي؟ يمثل الخطاب الجندري شكلاً واضحاً لظاهرة «الإنابة في الكلام» (الزوج / الزوجة، الأب / البنات، ولي الأمر/ القاصرات سواء كنَّ أخواتٍ أو قريبات إناثاً أو حتى مجرد إناث لا يمتُتْن للمتحدث المناب عنهم بصلة). وكمثال على هذه الظاهرة أسوق عدة مظاهر محليّة تتكرر في حياتنا اليومية الثقافية بوصفها صناعة ذكورية. فمن يدخل قاعات المحاكم أو الدوائر الحكومية أو أي مجال يتخذ فيه الذكر دور المتحدث، يلحظ بما لا يدع للشك مجالاً طغيانَ الرجل وإنابته عن المرأة في الكلام حتى في المواقف القانونية التي تتطلب حضور صوت المرأة متحدثة. حتى أصبح من الطبيعي أن يتكلم الذكر بدلاً عن الأنثى في ذهنية تسمع صوت المرأة على أنه كارثة أخلاقية. إن مقاربة ظاهرة الإنابة في الكلام ضمن معطيات واقعنا المحلي تظهر وبشكل فاضح، إقصاء المرأة عن الفعل اللغوي. فالعادات الاجتماعية تقتضي التزام المرأة الصمت في السياقات الرسمية، وفي أحسن الأحوال تقتضي إنابة المرأة للرجل في الحديث باسمها. إن تتبع ظاهرة الإقصاء اللغوي للمرأة تجعلنا ندرك كيف أن المرأة وقعت ضحية لثقافة أفقدتها فاعليتها اللغوية فهي من المفترض ألا تتحدث عن نفسها أو عن الرجل أو تطرح رؤيتها ونظرتها لما حولها بالسلب أو الايجاب. لا تتكلم على أنها فاعل لغوى أو كائن قائم بذاته فهى فى اللغة مجرد معنى نجده فى الامثال والحكايات وفى المجازات والكنايات. هناك الكثير من المواقف الرسمية التي تصمت فيها المرأة وتجبر على إنابة الرجل للحديث بدلاً عنها: فصمتها يعني قبولها في عقد الزواج، وإنابة زوجها في الحديث عنها في المعاملات التجارية (البنوك) وفي المستشفى يتولى الذكر المرافق الحديث مع الطبيب فيما يخص أدق تفاصيل مرضها. كل هذه الممارسات تعني إقصاء المرأة عن أن تكون فاعلاً لغوياً مستقلاً بذاته ويتناقض مع مبدأ الأخلاقيات اللغوية. إن إنابة الرجل عن المرأة في الكلام هي نتيجة ومعطى لانتفاء الحيز الذي تشغله المرأة في مجمل السلوك، تنتفي غائية الفاعل اللغوي وتصبح المرأة في حالة وأد معنوي/ لغوي نتيجة لتسيّد الرجل على صناعة الكلام.
مشاركة :