خلال العام الماضي خسر النظام الضريبي في الاتحاد الأوروبي أقل قليلا من 500 مليار دولار، نتيجة ما يعرف باقتصادات الظل التي تعد ظاهرة آخذة في النمو والتصاعد بشكل يقلق عديدا من المسؤولين الاقتصاديين على المستوى العالمي، لما تمثله الظاهرة المستفحلة من قنوات موازية للاقتصاد الرسمي، تتصف في كثير من الأحيان بالغموض وعدم الشرعية القانونية والأخلاقية، وعدم القدرة على السيطرة عليها وتوجيهها بما يعظم المنفعة الاقتصادية للمجتمع. ويخشى عديد من المختصين أن يؤدي تصاعد القدرات المالية لاقتصادات الظل وعدم إدراجه في النظام الضريبي إلى عديد من مظاهر الخلل الاقتصادي والاجتماعي، وفقدان النظام الاقتصادي الرسمي إحكام سيطرته على الموارد المالية الحقيقية للدولة، كما يضعف أيضا من قدرة المنظومة الاقتصادية سواء على مستوى الدولة أو الاقتصاد العالمي عن امتلاك صورة حقيقية وواقعية دقيقة للمكونات الاقتصادية الداخلية، ومعرفة التفاصيل الخاصة بطبيعة القطاعات المستوعبة للقوة العاملة، وإمكانية التخطيط وتطويرها مستقبلا. وفي الحقيقة فإن اقتصادات الظل تمتلك عديدا من التعريفات، التي تصب جميعها في اتجاه التميز بينها وبين الاقتصاد الرسمي، وأوضح لـ "الاقتصادية"، الدكتور توم بيدجون أستاذ الاقتصاد الدولي أننا وجدنا اقتصادات الظل تطل برأسها عبر العصور المختلفة ولكن بدرجات مختلفة ومتفاوتة أيا كانت طبيعة النظام الاقتصادي سواء كان رأسماليا أو اشتراكيا أو مختلطا، ولكن التعريف الأكثر شيوعا ومنطقية لهذا النوع من الاقتصاد أنه جزء من المنظومة الاقتصادية الكلية يتضمن تبادل السلع والخدمات بعيدا عن النظام الضريبي، ومن ثم يتضمن أنماطا سلوكية غير متوافقة مع القواعد والمعايير القانونية والاقتصادية المحددة من قبل المؤسسات الرسمية، كما يتضمن أعمالا إنتاجية مشروعة اجتماعيا ولكن غير مصرح بها قانونيا مثل إنتاج مواد غذائية خارج القنوات الرسمية لإنتاجها التي تخضع للرقابة الصحية مثلا، كما يتضمن جزء كبير - وربما الأكبر في أنشطته - أعمالا غير قانونية مثل تجارة المخدرات والدعارة، وطالما ظلت تلك الأنشطة لا تدفع الضرائب فهي غير شرعية وتدخل ضمن اقتصادات الظل، أما إذا تم تشريعها ودفع الضرائب فإنها تخرج من نطاق اقتصادات الظل. ولكن إلى أي مدى يمكن قياس هذا النوع من النشاطات الاقتصادية غير الرسمية؟ لورا بيكر الباحثة الاقتصادية تؤكد أنه من الصعب للغاية قياس هذا النوع من النشاط الاقتصادي، لأنه في كثير من الأحيان يتداخل جنبا إلى جنب مع الاقتصاد الرسمي حيث يصعب الفصل بين الجانبين، فمثلا بائع الخضراوات الذي يبيع على قارعة الطريق قد يكون قد حصل على تصريح رسمي بممارسة نشاطه، ومن ثم فإنه يدخل ضمن آليات الاقتصاد الرسمي، ولكنه يبيع نقدا ومن ثم لا يدفع الضرائب الواجبة أو يتحايل ويدفع أقل، وهنا تدخل تلك الممارسة ضمن اقتصادات الظل، ومع هذا فإن اقتصادات الظل تسهم بشكل ملموس للغاية في إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. وتضيف لـ "الاقتصادية"، أن هناك مجموعة من الأساليب التقنية التي يمكن أن تعطينا تصورا عاما لحجم اقتصادات الظل، ومساهمتها في أي اقتصاد من الاقتصادات، ولكنها جميعا تقريبية وغير دقيقة بشكل قاطع، ويمكن القول إن اقتصاد الظل يسهم في المتوسط بنحو 39 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات النامية أو الناشئة ونحو 13 في المائة في الاقتصادات المتطورة. وتشير تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن قرابة ثلثي القوة العاملة في العالم ستعمل في اقتصادات الظل بحلول عام 2020، بينما تقدر القيمة الإجمالية لاقتصادات الظل على المستوى الدولي بما يقارب عشرة تريليونات دولار، ولا شك أن هذا الرقم الضخم لاقتصادات الظل، يوجد مشاكل للاقتصاد الدولي من أبرزها عدم خضوعه للنظام الضريبي، كما أنه يوجد مشاكل مالية تتعلق بالسيولة وأساليب دمج الأرباح الناجمة عن أنشطته في النظام المالي. ويعتقد بعض الخبراء المصرفيين أن من أبرز المشاكل الناجمة عن اقتصادات الظل، أن استمراريته تتطلب إيجاد منظومة مصرفية موازية يطلق عليها مسمى "بنوك الظل" تكون قادرة على لعب دور الوسيط بين العوائد المالية الناجمة عن اقتصادات الظل من جانب وإدماجها في النظام الاقتصادي العالمي من جانب، وتمويله من جانب آخر. وأشار لـ "الاقتصادية"، ديفيد كلين الخبير المصرفي إلى أن اقتصاد الظل أو الاقتصاد الموازي يعمل تماما وفقا لآليات المنظومة والقواعد الاقتصادية وأعني العرض والطلب، ولكن بعيدا عن أعين المؤسسات الرسمية، ونظرا لأنه يعمل وفقا لقواعد العرض والطلب، ويعمل بصورة كونية أيضا، فسيكون دائما في حاجة إلى أنظمة مصرفية لتمويل أنشطته، فعمليات الإقراض المالي تلعب دورا حاسما في ضمان استمرارية تلك الأنشطة غير الشرعية. ويستدرك قائلا إن لجنة الاستقرار المالي وهي هيئة رقابة مالية دولية تقدر القيمة الإقراضية لبنوك الظل حاليا بنحو 80 تريليون دولار، وعلى الرغم من أن تلك القدرة المالية المخيفة لا تذهب بمجملها لتغطية احتياجات اقتصادات الظل، فإن الجزء الكبير منها يوجه لتلك الاقتصادات. ويعتقد الخبراء أن العديد من الجهود التي تقوم بها الاقتصادات المتطورة لتقليص نسبة اقتصادات الظل مقارنة بالاقتصاد الرسمي قد أفلحت في أن تحقق نتائج إيجابية بشكل عام، لكن لا يزال هناك حالة من التأرجح من عام إلى آخر في تقدير قدرة اقتصاد الظل في البلدان المتطورة، وهو ما يكشف عن قوته وتأصله في النظام الاقتصادي. وأشارت دراسة أعدها فريدريك شنايدر أستاذ الاقتصاد في جامعة يوهانس كيبلر لينز النمساوية حول "اقتصادات الظل في 31 دولة متقدمة"، إلى أن قيمة اقتصاد الظل في الولايات المتحدة تبلغ تريليوني دولار سنويا، وأن الاتجاه العام في أوروبا هو تراجع اقتصادات الظل من 22.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2003 إلى 18.3 في المائة في 2015، ولكن يلاحظ أنه على الرغم من تراجعه خلال الفترة من 2003 - 2008 إلا أنه عاود الارتفاع عام 2009 وسط توقعات بمعاودة ارتفاعاته خلال العام الحالي. ويفسر لـ "الاقتصادية"، الدكتور جيري كوابر أستاذ الاقتصاد التحليلي في جامعة كامبريدج هذا الوضع بأن هناك جهودا ملحوظة من القيادات الاقتصادية في عدد من الدول الأوروبية المتقدمة وفي مقدمتهم بريطانيا وألمانيا وفرنسا لإدماج قطاع كبير من اقتصادات الظل غير المشروعة في النظام الاقتصادي الرسمي، فقد ناقشت هيئات برلمانية بريطانية أخيرا التأثير الاقتصادي لتشريع بعض قطاعات اقتصاد الظل مثل الدعارة والمخدرات داخل النظام الاقتصادي، وتشير التقديرات الأولية إلى أن مساهمة هذان القطاعان في الناتج المحلي الإجمالي البريطاني تصل إلى عشرة مليارات دولار سنويا. وأضاف كوابر أنه بالنسبة لتأرجح مساهمة اقتصادات الظل في الاقتصادات الأوروبية، وتوقع زيادة مساهمته هذا العام، فالأمر يعود في جزء منه إلى ظاهرة الهجرة البشرية غير الشرعية إلى أوروبا، فهذا النوع من الأنشطة الاقتصادية ينتعش في مثل تلك الأجواء سواء لتوفير احتياجات رخيصة الثمن لهؤلاء اللاجئين قد تفشل المؤسسات الرسمية في توفيرها، أو نتيجة استغلال المهاجرين في ممارسة أنشطة غير مشروعة مثل الدعارة أو تجارة المخدرات. وعلى النقيض من البلدان المتقدمة تقف الاقتصادات النامية والناشئة عاجزة عن التعامل مع اقتصادات الظل في بلدانها، فالأمر لا يتوقف من وجهة نظر الخبراء على غياب بيانات أو إحصاءات يمكن استخدمها لوضع صورة ولو تقريبية لمساهمة اقتصاد الظل في تلك الاقتصادات، ولكن أيضا غياب رؤية واضحة لكيفية التعامل معه. وأوضحت لـ "الاقتصادية"، الدكتورة سوزي ترو الاستشارية في الأمم المتحدة أنه بالنسبة للبلدان النامية فإن اقتصادات الظل تلعب دورا مهما للغاية في مجمل النشاط الاقتصادي، ومن الصعب الفصل بين الاقتصاد الرسمي واقتصاد الظل فالتداخل بين الجانبين قائم بصورة تامة، فعلى سبيل المثال تعد أنشطة مثل الدعارة غير شرعية في العديد من بلدان العالم الثالث، ومع هذا تغض بعض الدول الطرف عنها باعتبارها محفز للسياحة، أو أن تصنيع بعض المنتجات الاستهلاكية يتم بعيدا عن أعين الرقابة والمؤسسات الضريبية الرسمية، ومع هذا لا تتصدى له السلطات الرسمية باعتبارها أنشطة تساعد على تلبية الاحتياجات الاستهلاكية أو الخدمية للطبقات الدنيا. وتؤكد سوزي ترو بأن العوامل التي تعزز من موقع اقتصادات الظل في البلدان المتطورة والبلدان النامية تبدو مختلفة، فبينما تلعب الضرائب المرتفعة دورا مهما في أسباب وجود اقتصادات الظل في البلدان المتقدمة، تمثل الأنظمة البيروقراطية وعدم قدرة القنوات الاقتصادية الرسمية على استيعاب القدرات الاستثمارية في المجتمعات النامية، السبب الرئيسي لبروز هذا القطاع الاقتصادي في تلك البلدان. ستيف كلين الخبير الضريبي يؤكد أنه كلما انخفض الإجمالي النقدي المتاح للعمال أو أصحاب رؤوس الأموال قبل سداد الضرائب وبعدها، كلما زادت إمكانية انتعاش اقتصاد الظل، وعلى الرغم من أن الحكومات في البلدان المتقدمة تعمل على تعويض ذلك من خلال منح العديد من الخدمات بأسعار أقل من التكلفة مثل دعم النظام التعليمي والصحي، إلا أن ذلك لا يمثل في كثير من الأحيان بديلا ملائما. ولكن تأثير النظام الضريبي كدافع محفز على انتعاش اقتصاد الظل في البلدان النامية، يعد أضعف بكثير، نظرا لكون النظام الضريبي فيها مملوء بالثغرات، وإنما تقوم التعقيدات القانونية وأنماط البيروقراطية السائدة بدفع الكثير من الراغبين في الاستثمار، إلى التوجه إلى قنوات أخرى غير رسمية. وأشار الدكتور توم بيدجون أستاذ الاقتصاد الدولي إلى أن الضعف الشديد لقنوات الاستثمار الرسمية يعتبر من أبرز المشكلات الرئيسية التي تدفع لانتعاش اقتصادات الظل في البلدان النامية، إذ إن أغلبها يتركز في الودائع البنكية، وفي كثير من الأحيان تكون معدلات الفائدة أقل من معدلات التضخم الحقيقي، الذي يختلف عن المعدلات الرسمية المعلنة، ومن ثم يبحث المواطن أو صغار رجال الأعمال على أشكال أخرى للاستثمار من لزيادة مداخيلهم المالية خارج الأطر الرسمية، سواء قاموا بالاستثمار في أعمال وأنشطة تعيق البيروقراطية السائدة الاستثمار فيها وهذا يدخل ضمن اقتصادات الظل، أو أن يقوموا بوضع أموالهم في أشكال من التمويل غير الرسمي، وهو ما يمثل شريان الحياة المالي للأنشطة الاقتصادية غير الرسمية وأعني اقتصادات الظل. ومع هذا، تشهد الأبحاث الاقتصادية الأخيرة تغيرات واضحة في النبرة التقليدية المعادية لاقتصادات الظل، من قبل الدوائر الاقتصادية الرسمية، خاصة في البلدان المتقدمة، ففي دراسة حديثه لعدد من الاقتصاديين البريطانيين في جامعة أكسفورد، أشار هؤلاء إلى الجانب الإيجابي لاقتصادات الظل في استيعاب أعداد كبيرة من القوة العاملة في قنواته الإنتاجية، وما يمثله حصول هؤلاء العمال على أجور يتم ضخها في الطلب الفعال في المجتمع، ما يساعد على تفادي تعميق الأزمة الاقتصادية الراهنة، وتجنب المزيد من الركود الاقتصادي. ويشير برين كون الباحث الاقتصادي إلى أنه ربما يكون لاقتصادات الظل فائدة لا تنكر في أوقات أزمات الاقتصادات الرسمية، ولكن على الأمد الطويل ستظل اقتصادات الظل فجوة سوداء في الاقتصاد، يجب تقليصها إلى أقصى حد ممكن، لأنها تؤدي إلى إضاعة العديد من الموارد المالية للاقتصاد الوطني الكلي، ولا تؤدي إلى تعظيم المنفعة الإجمالية من الموارد البشرية والمالية للدولة.
مشاركة :