خلال الحرب العالمية الثانية اختيرت لندن لتنظيم النسخة الرابعة عشرة للأولمبياد عام 1948، وكانت تمثل الأمل والمقاومة في الوقت عينه، مثلت إعادة إحياء ما تهدم في الرياضة عموماً. اختيرت لندن لتنظيم النسخة الرابعة عشرة للأولمبياد عام 1948، وكانت تمثل الأمل والمقاومة في الوقت عينه خلال الحرب العالمية الثانية قبل نحو ثلاثة أعوام، ومثلت إعادة إحياء ما تهدم في الرياضة عموماً، علماً أن طوكيو كانت مقررة أن تستضيف دورة 1940، ثم انسحبت لهلسنكي على أن تنظم لندن دورة 1944. وأقيمت الدورة من 29 يوليو إلى 14 أغسطس في لندن بمشاركة 4104 رياضيين بينهم 390 لاعبة من 59 دولة، تنافسوا على ميداليات 137 مسابقة، ضمن ألعاب كرة السلة، وكرة القدم، والملاكمة والمصارعة والدراجات وكرة الماء والتجذيف والجمباز والفروسية وألعاب القوى والسباحة والغطس واليخوت والرماية والخماسية الحديثة ورفع الأثقال والمبارزة والهوكي على العشب. وإذا كانت دول عدة تأثرت بالحرب العالمية الثانية، فغاب معظم أبطالها، والذين شاركوا بدوا في مستوى ضعيف، فإن دولاً أخرى خاضت المنافسات الأولمبية للمرة الأولى، وهي: لبنان وسورية والعراق وبورما وغويانا البريطانية وفنزويلا وإيران وباكستان وبورتوريكو وترينيداد وسريلانكا (سيلان) وكوريا الجنوبية وجامايكا. وفي وقت اتحد العالم من جديد، غيبت تبعات الحرب ألمانيا واليابان عن الموعد الكبير، الذي استمرت الولايات المتحدة في صدارة ترتيب ميداليته، فحصدت في لندن 38 ذهبية و27 فضية و19 برونزية، بفارق كبير عن السويد (16-11-17) وفرنسا (10-6-13). وللمرة الأولى خطفت المرأة أضواء النجومية من الرجال، وانتزعت الهولندية فاني بلانكيرز كون (32 عاماً وأم لثلاثة أولاد) أربع ذهبيات في 100 م و200 م والتتابع 4 مرات 100 م و80 م حواجز. وفاز التشيكوسلوفاكي إميل زاتوبيك بذهبية 10 آلاف م، معلناً بدء "عصره" وباتت مواطنته بطلة الجمباز ماكسي بروفانيزكوفا أول رياضية أولمبية شرقية تفر إلى الغرب، وتميز الفنلندي فيكو هوهتانن في الجمباز، فحصد ثلاث ذهبيات وفضية وبرونزية. وجمعت مصر خمس ميداليات في آخر إنجاز كبير لها، إذ فاز إبراهيم شمس في ذهبية رفع الأثقال للوزن الخفيف، ومحمود فياض بذهبية الريشة، وعطية حمودة في فضية الخفيف، ومحمود حسن في فضية المصارعة اليونانية الرومانية لوزن الديك، وإبراهيم عرابي ببرونزية وزن الخفيف الثقيل. جرى افتتاح ألعاب لندن في استاد ويمبلي الشهير، وأعلنه الملك جورج السادس، الذي تسمر واقفاً على مدى ساعتين محيياً الوفود المشاركة في طابور العرض، وكان محاطاً بالعائلة المالكة، ومن ضمنها الملكة الحالية أليزابيث الثانية، وواظب على حضور غالبية المسابقات لأنه كان يعشق الرياضة ومنافساتها. وقام الإنكليز بمجهود كبير لإنجاح الألعاب، على رغم البؤس المنتشر عقب الحرب، ويقول الصحافي جيمس كوت من "دايلي تلغراف"، وكان يومها فتى صغيراً: "كانت الألعاب بالنسبة للشعب احتفالاً غير مسبوق ليس على الصعيد الرياضي فحسب، بل على صعيد الحياة اليومية، لأنها الأولى من نوعها بعد الحرب، فهو يعيش أوضاعاً صعبة ولا يمكن أن يكفي حاجاته اليومية من اللحوم والسكر، والفواكه شبه مفقودة في مدينة مدمرة لا توجد فيها فنادق. لذا عمد بعض الوفود إلى إحضار طعامه معه. وأقام الرياضيون في معسكرات القوة الجوية في سنتمور". وأجريت المنافسات وسط طقس متقلب مزعج يتراوح بين المطر الغزير والشمس الحارة، وتميز عدد من الوفود بكثافة مشاركة الضباط الرياضيين خصوصاً إنكلترا وفرنسا. وأقسم يمين اللاعبين الكومنودر الإنكليزي دونالد فلاني ثالث دورة لوس أنجلس 1932 وثاني دورة برلين 1936 في سباق 110 أمتار حواجز، لكنه تعثر ووقع على أرضه وخرج خالي الوفاض. ومن جديد، خيمت الأجواء الدراماتيكية على مجريات الماراثون، إذ كان العداء البلجيكي اتيان غايلي أول الواصلين إلى استاد ويمبلي متصدراً المشاركين، وكانت امامه لفة واحدة حول المضمار لبلوغ خط النهاية، بيد أنه كان منهكاً ومشى مترنحا على رغم تشجيع الجمهور، ولم يقو الحكام على مساعدته تفادياً للحادث الذي حصل عام 1908 في لندن أيضاً مع الإيطالي دوراندو بييري، ولحق الأرجنتيني ديلفو كابريرا والبريطاني توماس ريتشارد بغايلي وتجاوزاه بالغين خط النهاية، بينما اكتفى هو بالمركز الثالث. وعانى المشاركون في سباق 50 كلم مشياً والدراجات 200 كلم على الطريق الكثير من سوء الأحوال الجوية. وطار الفوز بذهبية المشي من يدي السويسري غاستون غوديل، الذي ظن لدى دخوله الاستاد أنه أدرك خط النهاية وراح يحيي الجمهور، ولما نبهه الحكام أن عليه السير لفة إضافية، كان السويدي جون ليوغرين قد تجاوزه، أما في الدراجات فخاض المعاناة مئة متسابق، وتمكن الفرنسي جوزيه بيار من " النجاة" في نهايته. ولفت الأنظار في لندن الحضور الأميركي الذي تميز مرة جديدة، وتمكن السباح والتر ريز من إحراز ذهبية 100 متر حرة (57.3 ث)، وحققت وليام سميث رقما أولمبيا في 400 م حرة "41.4 د"، وبرز مالفن وايفيلد في جري 800 م وأحرز الذهبية مسجلاً زمناً مقداره 2.49.1 د. أما المسابقة العشارية، فعاد ذهبها للأميركي بوب ماتياس، وحل ثانياً الفرنسي انياس هنريش، الذي جند إجبارياً في الجيش الألماني خلال الحرب لأنه من الألزاس، فعاش الجحيم على الجبهة الشرقية، وأسر مع مجموعة من الفرنسيين من قبل الروس، "واعتبرونا متطوعين لمقاتلتهم لأننا من بروسيا الشرقية، فأساءوا معاملتنا". فاني وأوسترماير... ربة منزل وعازفة بيانو تشرقان في لندن لمسات ناعمة، لكن كلها تصميم وجرأة وتألق، أضافتها الهولندية فاني بلانكرز كوين، والفرنسية ميشلين أوسترماير على دورة لندن الأولمبية عام 1948، الأولى بعد الحرب العالمية الثانية. فقد حققت بلانكرز أربع ذهبيات، على طريقة الاميركي جيسي اوينز عام 1936، فكان احتفال لا سابق له لانجاز غير مسبوق، حققته أم وبطلة مثالية. وحملت العازفة اوسترماير على منكبيها مسؤولية كبيرة، فكتب احد المراسلين معلقا على ادائها: "شابة انيقة في الرمي والاسلوب، متمكنة وبارعة، ابتسامتها مفعمة بالحياة وحيوية الرياضة، جد مرتاحة تدخل المسابقة واثقة من نفسها". كانت فرنسينا "فاني" بلانكرز كوين امرأة من ذهب رغم سنواتها الثلاثين، هيمنت على سباقات السرعة، فحققت 11.9 ث في 100 م، و24.4 ث في 200 م، وأسهمت في فوز بلادها في التتابع 4 مرات 100 م (47.5 ث) امام استراليا وكندا، وسجلت 11.2 ث في الـ 80 م حواجز. وبين التصفيات والنهائيات، فازت فاني في 11 سباقا على مضمار موحل في غضون ثمانية ايام. وشاركت فاني في دورة برلين قبل 12 عاما، اي عندما كانت في سن الـ 18، حيث حلت سادسة في الوثب العالي، وخامسة في التتابع 4 مرات 100 م. ولعل ابرز انتصاراتها عامذاك، حصولها على توقيع الاسطورة جيسي اوينز. نشأت فاني في عائلة مزارعة، وفي المدرسة تلقت علوما في التدبير المنزلي والخياطة والعناية بالحديقة وركوب الدراجة الهوائية، وزاولتها في اوقات الفراغ القليلة. تربية عامة لربة منزل بعيدا من طرق التدريب والتحفيز الرياضي. أما الفرنسية اوسترماير، فكانت تنافس بفن وموسيقى، عازفة البيانو بطلة رمي القرص والكرة الحديد وثالثة الوثب العالي. وعموما الموسيقيون يخافون على ايديهم، واوسترماير كانت تجد في الرياضة راحة لهما. وقد ساعدها العزف على احترام الايقاع في خطوات الرمي وحركة الدوران. كما منحتها الموسيقى لاحقا فسحة امل، لمجابهة الصعوبات في حياتها، ومنها مأساتا فقدانها زوجها رينيه غازاريان وولديها جوال والن. احتفت اوسترماير بإنجازها، وعزفت في مكان اقامة البعثة الفرنسية على بيانو متهالك. وفي اليوم الاخير من الدورة دعاها رئيس اللجنة الأولمبية الفرنسية إلى حضور امسية لموزار. وأعلنت بعد الالعاب انها تعود إلى الموسيقى، لأنها مستقبلها ومهنتها و"الميداليات جزء من الماضي". تميزت اوسترماير بمواصفات جسدية قياسية (1.78 م، طول الساقين 83 سنتم، 72 كلغ). وكانت عريضة المنكبين، تبدو دائما واثقة من نفسها، مستغرقة في التركيز، لكنه تشتت خلال مسابقة الوثب العالي (حلت ثالثة، مسجلة 1.61 م)، اذ صادف موعدها مع النهاية الدراماتيكية لسباق الماراثون، وتشجيعها وباقي أفراد البعثة الفرنسية فريق التتابع 4 مرات 400 م رجالا الذي حلَّ ثانيا.
مشاركة :