الأيدلوجيات العدائية لغيرها، لا بد وأن ينتهي بها الزمان للهلاك. إما بمواجهة دموية بين الأيدلوجية وقومها، أو بتكالب الدول على بلادهم. وهذه سنة ماضية لم تختلف عبر الأزمان والأديان والبلاد. والسنن لا تتغير ولا تتبدل، وبهذا انتهت كثير من الإمبراطوريات والدول والحركات، وبهذا سقطت الدولة السعودية الأولى، وذُبِح أهلنا وشردوا. وفي الدولة السعودية الثالثة، كانت السبلة مواجهة دموية بين أيدلوجية وقومها. وعلى أهمية قمع المؤسس الأول رحمه الله للتطرف العدائي، إلا أن المواجهات لم تكن هي السبب الذي مد لنا في الزمن. إنما مد لنا الأجل عزل الداخل عن الخارج، وبذل أموال النفط لكف يد التسلط عن الناس، وعن الدول الأخرى. وما عاد العزل ممكناً، ولم يعد النفط كافياً لإشباع نزوات العداء والتسلط المتصاعدة داخلياً وخارجياً. فصناعة الوحوش لا تنتهي بالقضاء على رؤوسها، فالوحوش تتوالد وتُتوراث جيناتها، فكلما قُضى على رأس وُلِد عشرة رؤوس. والتعامل بعد الحدث سياسة فاشلة خاصة في الأحداث الاستراتيجية التي تستغرق عمقاً زمنياً لتكوينها. فبعد القاعدة جاءتنا داعش وبعد داعش سيأتينا دواعش أُخر. ولا ينفع البر يوم الغارة. ولا يستخفن عاقل بعمق إيمان الصغار بكفاحهم، في الحركات الدينية أو الأيدلوجية. فما صاروا قرابين لكبار شياطينهم طمعاً في دنيا. فما كانت آلامهم في ذلك، إلا لِذات يتلذذون بها وما كانت جرائمهم عندهم إلا قربات يتقربون بها. وشاهد ذلك قوله عليه السلام: «أنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله» الحديث. والخروج عن الجماعة نزعة أصلها فطري، كالبخل والجبن. فإن ينفع اليوم حوار معهم، فغداً يأتيهم من يُلامس نزعاتهم الفطرية بلباس ديني، فيردهم على أعقابهم، فيكونوا كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا. لذا فالقضاء على التطرف الديني لا يُجدي بعمليات جراحية منفصلة، أو بأدوية مسكنة. فإما أن يكون القضاء عنيفا حاسما شاملا، وهذا أمر خطير، لا يستهين به إلا سفيه، وفيه ظُلم وفتن وانتهاك للحقوق والحريات، ونسأل الله العافية. وإما أن يكون بدواء يعالج أصل المرض لا بمسكنات تُسكنه إلى حين. وما لا يسري بين العروق لا يتقبله الجسم. وهذا يعني أن يكون الحل سلفياً وهابياً خالصاً. فالسلفية الوهابية تدعو للرجوع لأصول الكتاب والسنة. وإنما بدأت بالعقيدة كما بدأ رسول الله بها، ثم قصر الاتباع عن إكمالها فقهيا. والفقة المعاملتي حنبليا كان أو شافعيا أو حنفيا، يندر أن تجد شيئا من أصول الكتاب والسنة في استنباطته. إنما هي أهواء رجال ومقلدين لهم، يدرك هذا من عمق علمه فأسكت خذلان لسانه بالتأويل والتبرير. وإن في طيات أصول الكتاب والسنة فسحة ما بين المشرق والمغرب. فمن التفسير الحرفي للصديق إلى مرونة الفاروق في تفسير أحكام الوسائل. وتفسير الفاروق لم يكن مزاجيا ولا وحيا سمائيا. من تتبعه وجد أنه محكوم بقاعدة الوسائل والغايات. فأحكام المعاملات التي يتسلط بها المتطرفون على مجتمعاتهم ويهدرون حقوق جيرانهم ويعادون بها الدول، غالبها من أحكام الوسائل. وحق تقرير إمضاء حكم الوسيلة أو إلغاءه لانتفاء ذريعته، هو حق ولي الأمر الفقيه، وما الفقيه إلا بدعة ابتدعها المسلمون تقليدا لليهود والنصارى. وبتفرد الفقيه وأهواءه وجهالاته، جهل المسلمون وأضاعوا دينهم. وهذا له أدلة كثيرة قطعية الثبوت والدلالة، ولا يعجز في المناظرة دونها إلا من عجز عقله وضحل علمه. فالدين بسيط قد اكتمل، والاجتهاد في غالب الأحكام حق للعبد الذي سيتعبد به لله، وهو ولي الأمر ومن يفوضهم من أهل الاختصاص في العلوم. لا مشيخة لا يحسنون، إن أحسنوا، إلا التخير مما حفظوه من كتب أهواء وأراء رجال قبلهم. فتراهم يتألون كتاب الله وسنة نبيه بأهوائهم لا يراعون فيها دينهم بل أندادهم وأتباعهم. ولم أكن منظّراً قط، فقد قدمت قديماً مشروعاً متكاملاً في هذا، ولو بدأنا به آنذاك لكنا اليوم نقطف ثماره، إلا أنه أُجهض بعد أن تبين لهم زوال سلطة المشيخة، فخافوا على ديناهم. ومازال لدينا البناء وأساساته لنقود العالم الإسلامي، فلا نهدمنه فنضيع مجداً كان لنا، والأمر لله يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء.
مشاركة :