لم تكد أوروبا تفيق من صدمة "بريكسيت"، أو استفتاء الشعب البريطاني على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا لتجد نفسها أمام تطور خطير آخر في دولة تسعى للانضمام إلى الاتحاد،ففي تركيا خرج الشعب إلى الشارع ليتدخل في صنع أحداث قد تغير شكل تركيا ومستقبلها. دور الشعوب في تقرير مصيرها إلى الأحسن أو إلى الأسوأ ليس جديدا على الفكر السياسي الأوروبي بل وعلى العقل الأوروبي بصفة عامة. الجديد هو أن الطبقة السياسية في أوروبا التي بذلت جهودا خارقة على امتداد ثلاث أرباع قرون لتحويلالحركة السياسية للشعوب من مساراتها التلقائية والعشوائية لتتدفق بحساب وهدوء في قنوات دستورية وقانونية، أي ضمن شبكة مؤسسات، هي الآن تشاهد وبمنتهى القلق شعوبا في أوروبا وفي جوارها وفي العالم بأسره تعود إلى تفضيل المسارات التلقائية على مسارات تقررها النخب الحاكمة. لا جدال في أن هذه العودة من جانب الشعوب للتدخل في الحياة السياسية أصبحت تشكل العنصر الأساسي في خرائطالحكم وخطط الحكام في عديد الدول وبخاصة في العالم الغربي الذي هزته إلى الأعماق موجة ثورات الربيع العربي.كان التصور في بدايته يقتصر على أنه من الممكن ألا تنتقل التداعيات إلى خارج الشرق الأوسط، وأن العالم سوف يشهد في أقرب فرصة طبقة سياسية جديدة تتولي الحكم في دول الشرق الأوسط وتتحملمسئولية إقناع الشعوب بفائدة القنوات الجديدة التي ستشق لها لتسير فيها وتتحرك بحرية وتحقق أحلامها.لم يقدِّر المحللون بالقدر المناسب ارتباط هذه الثورات بظاهرة أشد اتساعا في العالم، وهي ظاهرة تدهور ثقة قطاعات واسعة من الناس في النخب التي تحكمهاوربما في الطبقة السياسية التي تفرز هؤلاء الحكام. نحن، أو كثيرون بيننا، أصبحوا الآن على ثقةمن أن التصويت بنعم على الخروج ببريطانيا من العلاقة الوثيقة بالاتحادالأوروبي وعلى علاقة أقل ترابطا وقيودا على حريةالقرار البريطاني هو في أحد أهم جوانبه إعلان سخط على الجماعة البيروقراطية الحاكمة في المفوضية في بروكسل، وفي الوقت نفسه إعلان غضب على مجمل إنجازات وسلوكيات الطبقة السياسية في إنجلترا. أصبحنا أيضا على ثقة من أن صعود كل من دونالد ترامب وبيرني ساندرز في حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية لم يكن مجرد ظاهرة عابرة في الحياة السياسية الأمريكية. هذا الصعود، أراه ويراه آخرون، دليلا ملموسا على أن أحدا اكتشف أن الشعب الأمريكي، في مجمله أو في أغلبه، لم يعد يثق في الطبقة السياسيةالأمريكية كعهده بها، وراح يستغل اكتشافه هذا ليعبئ جانبا من هذا الشعب الغاضب وراءه.الفارق بين ترامبوساندرز وكلاهما اكتشف حالة الغضب واستثمرها هو في أن ترامب يسعى فعلا لتدمير هذه الطبقة بينما يعتقد ساندرز أنه يستطيع بدعم هذا الغضب الشعبي إصلاح الطبقة السياسية وإجبارها أو إقناعها إدخال التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي ينادي بها ساندرز ويطالب بها الشعب. أمثلة عديدة على تصاعد حركة الشعوبوتصاعد المد النيولبرالي ضدها نراهما في أمريكا اللاتينية،القارة الأبرز في سجل التاريخ عن قوة الشعوب الغاضبةودورها في إحداث التغيير أو عرقلته. الأمثلة الأهم في الحال الراهنة هي تلك التي تزدحم بها الحركة السياسية في القارة الأوروبية. رأينا مثالا بارزا خلال أزمة اليونان مع منطقة اليورو ورأينا مثالا آخر في صعود حركة "نستطيع .. بوديموس"في إسبانيا، والحركات المتشبثة بالقومية في ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا. رأيناها في الهند وعلى أكتافها وصل ناريندرا مودي بحزبه المتعصب دينيا وطبقيا إلى السلطة في أكبر ديمقراطيةفي العالم المعاصر بل في التاريخ السياسي كله. أذكر كيف كان يحشي خطبه الانتخابية بعبارات تبجل الثقافة الهندوسية وتراث الهند واستقلال الإرادة الوطنية. هذه بالضبط كانت روح الخطاب السياسي لفلاديمير بوتين، إذ جاء إلى الحكم في ظل الغضب الشعبي الشديد على تدهور مكانة روسيا وهدر ثرواتها على الطبقة التيتولت الحكم في أعقاب سقوط النظام الشيوعي، جاء وفي نيته استثمار هذا الغضب في إقامة علاقة شخصية تربط بينه وبين الشعب، والعمل على مأسسةهذه العلاقة بعيدا قدر المستطاع عن مؤسسات الطبقة السياسية. فيكل مكان تقريبا يتصاعد الغضب ضد الطبقة السياسية.كانت ثورات الربيع نموذجا وحافزا، وما تزال.الشعوب التى خرجت في مطلع الثورات تعلن بوضوح أنها غاضبة على طبقة سياسية أهانت كرامتها وقيدت حرياتها وزيفت إراداتها ولم تكن عادلة اجتماعيا.في مصر خرج الشعب مرتين، مرة في يناير 2011 ومرة في يونيو 2013 وفي المرتين كان غاضبا، وفي المرتين أحدث تغييرا، ولكنه لم يفلح في تغيير الطبقة السياسية التي بأخطائها وقصورها تسببت في ثورته، بل لعله يدرك الآن حقيقة عودتها بسلطاتها شبه كاملة وبأفكارها يقودها شعار الاستقرار، الشعار الخادع الموروث مع غيره عن مرحلة ما قبل الثورة. سارت تونس على الدرب نفسه مع تغيرات طفيفة. هناك، وفي غياب العنصر العسكري، قاد مسيرة العودة اتحاد الشغل بما له من قوة وجاذبية لدى الشعب الغاضب لا تعادلهما قوة سياسية أخرى. وفي النهاية تعثرت العودة مؤذنة، لا قدر الله، بتطوراتمعقدة وغير سلمية الطابع بين أطراف النخبة السياسية العائدة للحكم. لا يمكن، ولا يصح، إغفال أهمية التطور المثير الذي وقع في المملكة العربية السعودية،هناك وجد من ينتبه لخطورة تمدد الغضبالعارم في أنحاء الشرق الأوسط على الطبقة السياسية إلى المملكة، فسارع إلى تنفيذ ما يمكن أن يرقى إلى مستوى الثورة على هياكل وأعراف طبقة إدارية وسياسية ودينية هيمنت،وككثير غيرها منالطبقات السياسية في المنطقة، بدأت تحصد غضبا بين فئات من الشعب. أنا لن أحكم هنا على سياساتالنظام الجديد الحاكم فعليا في واحدة من أهم دول الشرق الأوسط، ولكني بالتأكيد لا يمكن أن أغفل أو أقلل من القيمة التاريخية للتغيرات الكبيرة الواقعة هناك، وبتحديد أدق التغيرات التي تمس الطبقة السياسية والبيروقراطية السعودية وعلاقاتها بالشعب. تركيا، مثل غيرها من دول غير قليلة في المنطقة، وجدت نفسها على امتداد العامين الأخيرين نهبا لصراعات حقيقية وحادة، صراعات على السلطة وصراعات قومية وثورة اجتماعية تدعو للمساواة، عكست هذه الصراعات نفسها على أداء النخبة الحاكمة باسم الدين وحفزت التيار المتصلب أو الأكثر تدينا في تركيا على التعبير عن غضبه على أردوغان وحكومته.كان لا بد والحال يزداد تدهورا أن يتخذ أردوغان قرارا يسبق به قرار التيار الديني المتطرف إثارة قواعده الشعبية في ثورة عارمة بقيادة القوات المسلحة ضد حكومة أردوغان.يبدو أن القرارين تزامنا وكانت الغلبة لمن أفلح وكان أسرع من الثاني في حشد "الشعب" إلى صفه. والآن يبدأ أردوغان وبكل العزم والقوة تصفية طبقة سياسية وإقامة غيرها من صنعه مكانها، إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
مشاركة :