«كان فولتير، بفنّه كما بفكره، ينتمي إلى الماضي بقدر ما يبشر بالمستقبل. ولكن النتاج الهائل الذي خلّفه فَقَد مع الزمن قدراً من الراهنية التي كانت له طوال القرن التاسع عشر، لكن نتاج فولتير يبقى على رغم تفاوت قيمته بين كتاب وآخر، بين فكرة وأخرى، شهادة على ذهن دائم اليقظة. ذلك أن أسلوب هذا المفكر العامر بالحياة كان يشف عن الحضور الدائم لعقل مثقف وصاح. وهو، حتى يومنا هذا، لا يزال يعلّم إنسانية اليوم، المختلفة كلياً عن الإنسانية التي كتب لها، أن عليها ألا ترضى بأن تُخدع، وألا تحمل الأكاذيب والأوهام ورتابة الفكر على محمل الحقائق الجوهرية». هل هذا هو الحكم النهائي الذي كان على القرن العشرين أن يطلقه على فولتير؟ أجل... إلى حد كبير. فالحال أن هذا المفكر الذي كان فكره واحداً من الأسس التي قامت عليها الثورة الفرنسية، يبدو اليوم في معظم كتبه وكتاباته وكأن الزمن قد تجاوزه، حيث يصعب حتى - على البعض - أن يدرجه في قائمة الفلاسفة الخالدين الذين صنعوا للإنسانية فكرها المنشط والمحرك. ولكن، بعد كل شيء، هل كان فولتير فيلسوفاً حقاً؟ > إن في الإمكان المساجلة لفترة غير محدودة من الزمان بين آراء عدة متناقضة تحاول أن تثبت هذا أو ذاك أو ما بينهما... وقد يكون الترجيح في معظم الحالات، وفي السياق التقني على الأقل لمهنة الفيلسوف، لصالح نوع من التشديد على عدم إمكان إدراج اسم فولتير في اللائحة القصيرة نسبياً التي تضم أسماء كبار الفلاسفة على مرّ الأزمان من أفلاطون إلى هايدغر، غير أن التشديد على هذا لا ينفي أن فولتير قد اشتغل حقاً في الفلسفة، وكانت له آراؤه الفلسفية. بل يمكن أن نقول، بعد تصفح واحد من آخر كتبه، وأكثرها شهرة، «القاموس الفلسفي»، أن فولتير خدم الفلسفة بأكثر مما فعل أي مؤرخ آخر للفلسفة في زمنه: أوجد لها قاموساً لم يكن له وجود من قبل. نظّم علمها... وبخاصة من دون أن يدعي الموضوعية في ذلك، وهذه لا شك واحدة من سمات العمل الفلسفي البحت حيث لا يمكن للفيلسوف الحقيقي أن يدعي الموضوعية طالما أنه يريد أن يفكر فلسفياً ويعبر عن آراء جديدة تبرر اعتباره فيلسوفاً وذلك على عكس مؤرخ الفلسفة الذي يمكنه ألا يكون موضوعياً ولكن أيضاً قد يكون من حقه أن يدعي الموضوعية أيضاً. ومن هنا إذا ما تمعّنا في «القاموس الفلسفي» الفولتيري هذا سنجد بلا ريب أن فلسفة ما، تملأ صفحات ذلك السفر الذي لا يزال حياً حتى اليوم... مع العلم أن علينا أن نقرأه من دون أن نحصر تفكيرنا فيه بأنه «قاموس» لا أكثر. والأهم من هذا، لا بد لنا من أن نلاحظ أنه إذا كان فولتير قد أخّر وضع هذا الكتاب، حتى سنوات عمره الأخيرة، على رغم أنه كان قد خطّط له قبل ذلك بفترة طويلة من الزمن، حسبما يجمع كاتبو سيرته ومحللو أعماله، فلا شك أنه أراد منه أن يكون نوعاً من الوصية الفكرية. وأن يكون بالتالي، الخلاصة المسهبة والواعية لكل ما عايش وعرف وابتكر من أفكار. ناهيك بأن فولتير قدم في هذا «القاموس الفلسفي» نظرة إلى الدين والله تتناقض مع ما كان أثر عنه: فهو هنا لا يبدو «ملحداً» كما اعتاد مؤرخوه تصويره، بل يبدو في أقصى حالاته، حلولياً، يؤمن بوجود الله كقوة خالقة للكون فاعلة فيه، موجودة في كلّ كائناته... ولقد قال فولتير هذا في ثنايا «القاموس الفلسفي» إنما من دون أن يتراجع عن مواقفه المناهضة لرجال الدين والتي كانت كلفته كثيراً. > نشر فولتير «القاموس الفلسفي» في عام 1764، وكان في السبعين من عمره، هو الذي عمّر حتى الرابعة والثمانين. وهو حين جمع مادته وحررها، كان قد انصرف ليعيش عيش الدعة والسكينة في غربته بعيداً من العاصمة الفرنسية وعن صخب الحياة والصراعات الضاجّة فيها، شاعراً أنه أخيراً في مأمن يحميه فيه مجده وابتعاده من تهافت المدينة، وثرثرة مثقفيها. في تلك الآونة كان يشعر أن في إمكانه أن يقول، أخيراً، كل ما كان يريد قوله. وهو في الحقيقة كان يريد أن يقول الكثير، ومنذ أول اشتغاله في قضايا الفكر والأدب والمسرح والمعرفة في شكل عام. أما إذا كان قد شعر الآن أن في وسعه أخيراً أن يتبسّط في قول ما كان يريد دائماً أن يقوله وأجّله فإنما كان هذا يعود، بحسب تصوره إلى أسباب عدة أولها، أنه كان يؤمن بأن الاستمرار في الحياة يعني ضرورة الاستمرار في التفكير، وثانيها لأنه كان يرى أن ثمة أجيالاً من المفكرين أصغر منه سناً وفهماً، تحاول الآن أن تتجاوزه... لذلك وجد لزاماً عليه، - وكنوع من الدفاع عن الذات وتبرير ما يتبقى من الوجود - أن يفكر وأن يكتب كثيراً. والحال أن تلك المرحلة من حياته كانت المرحلة التي كتب فيها بعض أهم أعماله، من «خطاب حول الدين الطبيعي» إلى «كانديد». وكانت مساهمته قبل ذلك بقليل في «الموسوعة»، قد وفّرت له الوقت والإمكانية لكتابة الكثير من المواضيع والدراسات الفلسفية لكي تنشر فيها. وهو جمع تلك المقالات وأضاف إليها وعدل بعضها، ولم ينتظر صدور «الموسوعة»، بل أصدر قاموسه مؤلفاً من كل ذلك، وأطلق عليه اسماً عملياً هو «القاموس الفلسفي المحمول» ومن هنا عرف هذا القاموس دائماً باسم «المحمول». > إلى تلك المقالات العلمية والفلسفية كان ثمة مقالات أخرى عدة جاءت في القاموس مكرّسة لقضايا السياسة ولا سيما الحرية، ولمسائل القوانين وعلاقة الإنسان بها، والحروب والدول. والحكومات مع مفاضلة تبدو حتى يومنا هذا شديدة المعاصرة بين شتى أنواع الحكومات. وفي هذه الدراسات كافة جعل فولتير من نفسه، مرة أخرى، مدافعاً حيّاً وحيويّاً عن حرية الفكر. وكذلك عن النظام الدستوري. فبالنسبة إليه دولة القانون هي الدولة الأفضل ومدينته هي المدينة المثالية. والطريف أن مقاله عن دولة القانون جعله على شكل حوار، حيث يسأل واحد الآخر: «ما هي أفضل الدول؟» فيأتيه جواب الآخر: «إنها الدولة التي لا يطاع فيها شيء سوى القانون. ولكن، ما أن يرتاح المرء إلى هذا الجواب حتى يأتي استطراداً من فولتير يقول: «بيد أن هذه الدولة لا وجود لها». وإضافة إلى هذا كله يحفل «القاموس المحمول» بالكثير من المقالات حول علم النفس وعلم الجمال، وعلم الأخلاق... وهي علوم يعتبرها فولتير في الآن عينه جزءاً من السياسة وجزءاً من الفلسفة. وهذا واضح من خلال السياق التحليلي. > كما أشرنا، جعل فولتير الكثير من الأفكار المعبّر عنها في الكتاب، يأتي على شكل حوارات: مثلاً بين إنكليزي وإسباني حول حرية الفكر. وبين فيلسوف إغريقي ومفكر سيتثي حول وجود الله. وبين «فقير» هندي شرقي ومواطن صيني. أو بين صينيين وتركيين. وفي الأحوال كافة، وكما يشرح مؤرخو هذا العمل الفذ «مهما كانت جنسية المتحاورين فإن الأسلوب دائماً واحد: أحد المتحاورين يبدو جاهلاً تماماً لكنه مملوء بالحس السليم، أما الآخر فيبدو عالماً ضخماً بالأفكار، لكنه سرعان ما يفقد أفكاره ويكون على الثاني، الجاهل، أن ينوّره». > وكما أشرنا، أيضا، كتب فولتير معظم دراسات هذا الكتاب في مرحلة لاحقة من حياته. وكانت تلك الحياة التي بدأت في باريس وانتهت في باريس (1694 1778) مملوءة بالمغامرات والأفكار والهروب والتأليف والتعليم والخيبات، خصوصاً أن فرانسوا ماري آرويه (وهذا هو الاسم الحقيقي والكامل لفولتير) عاش خلال واحد من الأزمان الأكثر صخباً، وفي صلب مرحلة انتقالية من تاريخ البشرية. لقد أفاده هذا، لكنه جعله يدفع الثمن أيضاً. فضُرب وأُهين وطُرد في مكان بينما كُرّم وعُزّز في أماكن أخرى. دافع عن الحثالة وصادق الملوك. وانتهى عجوزاً هادئاً قلقاً. alariss@alhayat.com
مشاركة :