من معالم الحياة الكالحة في دنيا الإسلام السياسي اختفاء روح الفكاهة والسخرية. تجدها في المواقع الإلكترونية ولكنها اختفت من دنيا الصحافة، حيث أصبح هناك من الكتّاب من يخاف على مصيره ومعيشته. فما أجدرنا بأن نستعيد ذكريات تلك الأيام الحلوة من تاريخ السخرية العربية المعاصرة. أجد من أروع روادها الكاتب المصري إبراهيم المويلحي صاحب مجلة «مصباح الشرق» الصادرة في أوائل القرن العشرين. ضمت مقالات من أبدع ما كتب في التهكم الجارح. كانت حكومة الخديوي قد نفته لإسطنبول فبعث منها بسلسلة رسائل من أظرف ما قرأت. تحدث في إحداها عن سراي الحكومة، فقال إنه اشتمل على مكاتب لرئيس التشريفات وللكاتب الأول والآغا الأول والجاسوس الأول. ثم يستدرك فيقول إن الحكومة ألغت هذا المكتب الأخير ووزعت مهمات الجاسوسية على سائر المكاتب الأخرى بحيث أصبح مدير كل منها جاسوسا يترأس شلة من المخبرين. وفي رسالة أخرى يصف حياة رجال حاشية الخديوي ومهامهم فيقول إنه لا يوجد في أي لغة لفظة واحدة تعبر عن شتى شرور الحكم، مفردة ومتجمعة، مثل كلمة «حاشية»، فهي تجمع الصفات الثلاث لحجر الرخام: الثقل والبرودة والنعومة، تماما مثل البلاطات الرخامية للقبور. وبذلك يتسنى لأصحابها أن يحيطوا أنفسهم بهذه الصفات الثلاث في حياتهم ومماتهم أيضا. وعندما نفى السلطان عبد الحميد عددا من رجال هذه الحاشية وبعض السياسيين إلى مكة المكرمة، كتب يقول: «إن السلطان يعبر عن غيظه بإرسال من يغضب عليه من بيت السلطان إلى بيت الرحمن». كان المويلحي في إسطنبول عندما غزت فرنسا بلاد تونس وتمكن كبير الأحرار، مدحت باشا، من الفرار من براثن كبير الجواسيس الأتراك واللجوء إلى القنصلية الفرنسية. وبعد مراسلات طويلة ومفاوضات مستفيضة جرى الاتفاق بين تركيا وفرنسا على تسليم الثائر مدحت باشا لتركيا مقابل تنازل تركيا لفرنسا عن كل بلاد تونس. علق إبراهيم المويلحي على ذلك فقال: «وهكذا اشترت تركيا رجلا واحدا دفعت ثمنه مملكة بأسرها، مثبتة بذلك مدى تقديرها للكائن البشري!». وتحدث المويلحي في رسالته التاسعة عن رجل سوري جاء مع توصية لمنيف باشا ليجد له وظيفة، ففعل، فجاءه الرجل ليقدم له «عبوديته» على الوظيفة التافهة التي عينه فيها. وكان السلطان عبد الحميد قد اشتهر بأنه كان يدعو أعداءه إلى قصر يلدز ثم يتخلص منهم بقتلهم وإلقاء جثثهم في بحر مرمرة. أصبح اسم القصر يثير الرعب في نفوس الجميع، فسأل منيف باشا الموظف السوري عن عنوانه فأجابه: «قصر يلدز». «كيف ذلك»؟ «أعني فندق قصر يلدز». «اخرج ولا تعد إلى هنا إلا بعد أن تغير عنوانك لفندق آخر»! وقد جمعت رسائل إبراهيم المويلحي الثلاث عشرة، غفلا عن ذكر اسم كاتبها، لكن جواسيس السلطان عبد الحميد لم يخفقوا في مهمتهم هذه المرة فأخبروا السلطان بالأمر، فأوعز بمصادرة جميع النسخ المطبوعة وإتلافها، ولكن المويلحي تطوع فجمعها بنفسه وأرسلها إلى قصر يلدز.
مشاركة :