عندما قام المواطن البريطاني مارتن ليندزي بإيقاف سيارته الجاكور في الموقف المواجه لناطحة السحاب "ووكي توكي" في الحي المالي في لندن، غاب ساعتين وعاد ليجد أجزاء من سيارته قد ذابت بفعل أشعة الشمس. لم يصدق الرجل ما حدث، ولكن الأمر باختصار أن واجهة المبنى العملاق صممت من الزجاج المقعر المصقول لتعكس أشعة الشمس، ولم يدرك مصممو المبنى أن الأشعة ستكون من القوة لتذيب أجزاء مختلفة من سيارة مارتن الجاكور، بل وأن تسمح لبعض السكان في البنايات المقابلة بقلي البيض بواسطة الأشعة المنعكسة من "ووكي توكي" بدلا من موقد الغاز. وتفاديا لمزيد من المشكلات والتعويضات قامت الشركة المصممة لناطحة السحاب بإجراء تعديلات على الهيكل الخارجي للمبنى لتفادي تلك المخاطر على المارة وسكان الحي. قد تكون الشركة المصممة لناطحة السحاب "ووكي توكي" قد أفلحت في حل المشكلة، ولكن منذ ذوبان أجزاء من السيارة الجاكور والجدل في بريطانيا متواصل، وصار التساؤل هل بريطانيا وتحديدا لندن في حاجة إلى بناء ناطحات سحاب؟ وهل تعد تلك الناطحات بناء هندسيا يلائم النمط المعماري الذي اشتهرت به لندن عبر تاريخها، القائم على المنزل ذي الطابقين المرفق به حديقة خلفية؟ وهل تتحمل البنية الأساسية للمدينة الضغوط الناجمة عن تشييد مزيد من ناطحات السحاب؟ وإلى أي مدى تؤدي تلك المباني العملاقة والمشيدة من أكثر من 60 طابقا لتحريك الضغائن الاجتماعية في المجتمع، حيث تقطنها مستويات اجتماعية بالغة الثراء؟ في المقابل وجد المدافعون عن الفكرة أن الحفاظ على النمط المعماري المميز للندن لا يجب أن يكون عقبة في وجه تطوير العاصمة، وفقا لأحدث الصيحات والأنماط الهندسية، مؤكدين أن التحدي الحقيقي هو كيفية الحفاظ على أصالة المظهر المعماري للندن مع تطويره في الوقت ذاته، وتشير كافة الحسابات الهندسية إلى أن البنية الأساسية للمدينة تمكنها من استيعاب تلك الناطحات، والأهم في نظر البعض أن ناطحة السحاب الواحدة لربما تسمح باستيعاب عدد سكان حي أو أكثر من أحياء العاصمة، ما يخفف عمليا الضغط السكاني المتواصل الذي تتعرض له لندن. ويوجد حاليا نحو 200 ناطحة سحاب في طور التشييد أو حصلت على تصريح للبناء في العاصمة البريطانية، وثلاثة أرباع تلك الناطحات من المقرر أن تكون وحدات سكانية، وقد دفع النمو المتزايد لبناء تلك المباني العملاقة بالجمعيات والمنظمات المعنية بالحفاظ على التراث لمطالبة عمدة لندن بتشديد القيود المفروضة على منح تصاريح لبناء تلك الناطحات. ولـ "الاقتصادية"، تعلق صوفيا دولان من الجمعية الملكية للحفاظ على التراث، بأن هذا النمط المعماري لا يلائم في كثير من الأحيان مظهر لندن، لأنه نمط هندسي أمريكي غريب على بيئتنا، وللأسف يوجد ترحيب جماهيري به الآن، ونخشى أنه عندما يدرك المواطنون أضراره سيكون من الصعب التخلص منه. ولم يقف الجدل عند حدود الجوانب الهندسية لناطحات السحاب، بل أيضا الاعتبارات والدلالات الاقتصادية لها وعلاقتها بالأزمة الاقتصادية. ويصدر بنك باركليز منذ عام 1999 ما يعرف بمؤشر ناطحات السحاب، وقد ربط المؤشر في تقريره الأخير بين تشييد ناطحات السحاب ذات الارتفاعات الشاهقة في أحد البلدان واتجاه اقتصاد تلك الدولة الى التراجع، بل ويمكن القول إن المؤشر اعتبر أن زيادة الارتفاع قد يستدل منها على مدى عمق الأزمة، ورصد البنك 11 حالة عبر العالم يمكن الربط فيها بين تشييد تلك المباني الشاهقة والأزمة الاقتصادية. ويستشهد المؤشر بأول ناطحة سحاب في العالم Equitable Life في نيويورك، التي تم بناؤها عام 1873، وتزامن ذلك مع ركود استمر خمس سنوات، ثم هدمت البناية في عام 1912، كما أن مبنى Empire State في نيويورك شيد في خضم الركود الكبير، و"برج خليفة" في دبي شيد بالتزامن مع الأزمة المالية في الإمارة، واعتبر التقرير أن الانتعاش الكبير في ناطحات السحاب يعكس توزيعا سيئا لرأس المال. ويؤكد البنك، أنه منذ بدأ في إصدار التقرير فإنه تم التأكد من وجود علاقة ارتباط غير صحية بين ناطحات السحاب والأزمة الاقتصادية، ويضيف التقرير، أن تشييد تلك الناطحات يتزامن عادة مع إفراط في سياسات التوسع النقدي على المستوى العالمي. وإذ تعزز هذه التحليلات من اعتراضات البعض على ما يعتبرونه إفراطا اقتصاديا في تشييد الناطحات في بريطانيا وتحديدا لندن، فإن آخرين يعتبرون أن هذا التوجه المعماري في لندن يستهدف في الأساس جذب رؤوس الأموال والمستثمرين الأجانب من روسيا والصين ومنطقة الخليج العربي. ويقول جيمس مارتين الاستشاري الهندسي لـ "الاقتصادية"، "إن عشرات ناطحات السحاب التي بنيت في لندن أو التي حصلت على تصريح بتشييدها تكشف عن تجربة اقتصادية ناجحة، وأعني من منطلق العرض والطلب"، مضيفاً أن "هناك إقبالا كبيرا من الشركات العالمية أو الأثرياء الدوليين على شراء وحدات عقارية في تلك الناطحات فهي أكثر عملية من امتلاك منزل في لندن، كما تتلاءم مع طبيعة المجتمعات القادمين منها". ووفقاً لـ مارتين "فالأهم أنها تظهر للعالم أن لندن عاصمة كونية، وهذا أمر شديد الأهمية بالنسبة للاقتصاد البريطاني، فالحفاظ على هذه القناعة يدفع بالمؤسسات والشركات الدولية ورجال الأعمال إلى مزيد من الاستثمار في بريطانيا، وغالبا ما تعني ناطحات السحاب أن المدينة أو المنطقة التي توجد فيها أكثر رقيا وثراء من غيرها وهذا عامل وعنصر حيوي في جذب رؤوس الأموال". لكن البعض يعتقد أن هناك مبالغة في تقدير حجم إقبال الأجانب على الإقامة في ناطحات السحاب في لندن، فناطحة السحاب الشهيرة "شارد" التي مولتها قطر وبلغت تكلفتها 1.5 مليار جنيه استرليني وطولها 310 أمتار وتضم 72 طابقا، تقف خاوية على عروشها، شبه خالية من السكان أو المستأجرين، وباستثناء الإقبال الملحوظ على المطاعم الثلاثة التي توجد في المبنى فإن عددا محدودا من وحداتها العقارية تم استئجاره، وبعضها استأجر من قبل شركات قطرية. فارتفاع تكاليف الإنشاء يدفع بالضرورة إلى ارتفاع في قيمة بيع أو تأجير الوحدة العقارية، حيث تراوح قيمة بعض الوحدات في برج "شارد" بين 30 إلى 50 مليون جنيه استرليني، وهو ما يحد بشكل كبير من إمكانية شرائها، إلا أن آخرين يردون بأن ناطحة السحاب القطرية حالة استثنائية، فالقطريون يبالغون في أسعار التأجير أو البيع ويرفضون خفضها، وأنهم يعلمون منذ البداية أن "شارد" لن يفلح في أفضل تقدير سوى في تأجير أو بيع ثلث وحداته، ولكن القياس على "شارد" قياس ظالم لناطحات السحاب البريطانية حيث أغلبها مستأجر أو تم بيعه سواء كوحدات سكانية أو مكاتب لشركات ومصارف دولية. ومع هذا فإن لويز بالدين الباحثة في الشركة الدولية للعقارات تدافع عن تشييد مزيد من ناطحات السحاب في بريطانيا وتحديدا لندن، ولا تختلف قناعتها عن قناعة جيمس مارتين لكنها تسوق أسبابا مختلفة لموقفها ولـ "الاقتصادية" تقول، "إن التوسع في ناطحات السحاب وتحويلها من سكن للأثرياء إلى سكن متاح للشرائح الأكثر ثراء من الطبقة المتوسطة، عامل مهم لحل مشكلة السكن خاصة في لندن"، مشيرة إلى أنه سيتم بناء نحو 30 ألف وحدة سكنية في لندن سنويا خلال السنوات الخمس المقبلة، وهذا تقريبا نصف عدد الوحدات المطلوبة، ومن ثم ونتيجة نقص مساحات الأراضي، فلن يكون هناك بديل غير التوسع الرأسي عبر ناطحات السحاب، وإلا فإن أزمة السكن ستتفاقم بشكل خطير. الأمر لا يخلو بطبيعة الحال من معارضين لناطحات السحاب ولكنهم يتفاوتون في درجة معارضتهم وأسبابها ودواعيها، فبعضهم يعترض من منطلق أن تلك الأبراج تنتشر في لندن حاليا بشكل عشوائي وغير مدروس، مفضلين أن تتركز في منطقة محددة، ولهذا التركز فوائد اقتصادية ملموسة وسريعة، إذ سيسمح بتحول المناطق التي تضم ناطحات السحاب إلى موقع استثماري وسكني حديث يمثل منطقة جذب اقتصادي لبقية مناطق العاصمة. لكن الأصوات المعارضة تتضمن أيضا أصواتا رافضة لتشييد ناطحات السحاب من حيث المبدأ من أبرزها الاقتصادي وليم فيرباس الذي اعتبر أن تبعات هذا النوع من النشاط المعماري على المشهد الاقتصادي تكلفته باهظة، مشيراً إلى أن أغلب هذه البنايات تتركز في الضفة الجنوبية لنهر التيمز، وهذا يخلق حالة من الفصل في العاصمة التي ستصبح مع مرور الوقت مدينتين مختلفتين اجتماعيا وفي مستويات المعيشة. وحذر في مقال له بهذا الشأن من أن التكلفة الاقتصادية بما تمثله تلك البنايات العملاقة من ضغط على شبكة البنية التحتية سواء المياه أو الكهرباء يتطلب في كثير من الأحيان تطوير تلك الشبكة التي ستشيد فيها ناطحة السحاب، ويأتي هذا على حساب دافعي الضرائب في بريطانيا ولمصلحة مجموعة محدودة من الأثرياء. ويكرر وليم موقفه الدائم بأن لندن دائما في الأذهان منازل من طابقين وحديقة خلفية مرفقة بالمنزل، ولا يجب أن نحولها إلى مانهاتن حيث ناطحات السحاب هي المدينة، ومع هذا فإن كثيرين يعتقدون أن هذه الأصوات تبدو صرخة في البرية أمام تطور لا بد منه، إذ يصعب وقفه أو التصدي له.
مشاركة :