يعتبر الاقتصاد التركي واحدا من الاقتصادات التي يطلق عليها العالم اليوم عبارة "الخمس الهشةThe Fragile Five" أي الاقتصادات الأكثر عرضة لأي تقلبات تحدث في الأسواق العالمية، التي تشمل تركيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا وإندونيسيا. هذه الدول تواجه عمليات خروج ضخمة من جانب المستثمرين الدوليين والذين حولوا استثماراتهم من عملات هذه الدول إلى عملات دول أكثر استقرارا على المدى الطويل مثل الدولار الأمريكي، خصوصا بعد أن أخذت العملات الدولية الرئيسة في الارتفاع وأصبحت أكثر أمانا عن ذلك قبل، حيث ينظر اليوم إلى السندات الأمريكية على أنها تقدم بديلا أفضل من السندات الخطرة ذات معدلات العائد المرتفع للدول الهشة ماليا. منذ فترة والعملة التركية تفقد جانبا من قيمتها بسبب تراجع معدلات صرف الليرة بالنسبة للعملات الأجنبية، وعلى رأسها الدولار، وخلال الشهرين الماضيين فقط فقدت نحو 15 في المائة من قيمتها، وفي يوم الإثنين الماضي ارتفع معدل صرف الدولار إلى مستويات قياسية جديدة عندما بلغ 2.39 ليرة للدولار، وأصبح من الواضح أنه لا بد من اتخاذ إجراءات استثنائية في تركيا للحد من الاتجاه النزولي لليرة ودعم مستويات الثقة بها من جانب المستثمرين الدوليين. معظم المراقبين ينظرون إلى الانخفاض في الليرة على أنه نتيجة تصاعد الأزمة السياسية حول فضيحة الفساد المرتبطة بأعوان رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وكذلك تصاعد القلق حول أداء الاقتصاد التركي، في الوقت الذي تنظر فيه الحكومة إلى أثر الأزمة السياسية في الاقتصاد على أنه مؤقت، لذلك حاول البنك المركزي تجنب رفع معدلات الفائدة لدعم الليرة وذلك أخذا في الاعتبار أن رفع معدلات الفائدة يؤدي إلى التأثير السلبي في مستهدفات النمو، خاصة بعد تراجع معدلات النمو من نحو 9 في المائة تقريبا في عامي 2010-2011 وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، إلى نحو 2.2 في المائة فقط في 2012، كما أن التقديرات المتوقعة في 2013 ليست براقة، حيث يقدرها صندوق النقد الدولي بنحو 3.6 في المائة في 2013. لقد صرح رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، قبل اجتماع البنك المركزي يوم الثلاثاء الماضي بأنه لا يريد التعليق حول الموضوع حتى لا يقال إنه يتدخل في أعمال البنك المركزي، كما أنه ضد أي ارتفاع في معدلات الفائدة هذه الأيام، وأنه ليس لديه سلطة التدخل في أعمال البنك المركزي وأن المسؤولية في هذا الجانب تقع عليهم. غير أن البنك المركزي التركي كان واقعا تحت تأثير الأسواق التي كانت دائما ما تطالب برفع معدلات الفائدة على الليرة، وفي خطوة وصفها المراقبون بالعنيفة قام البنك المركزي التركي برفع معدلات الفائدة على الليرة التركية في اجتماع طارئ يوم الثلاثاء الماضي بهدف رفع قيمة الليرة، حيث أعلن عن رفع معدل الفائدة على الإقراض اليومي بنسبة من 7.75 في المائة إلى 12 في المائة، أي بنحو 4.25 في المائة دفعة واحدة، كذلك تم رفع معدل الاقتراض لمدة ليلة من 3.5 في المائة إلى 8 في المائة. لم يكن أحد يتوقع أن يقوم البنك المركزي التركي برفع معدلات الفائدة بهذا القدر، كانت هناك توقعات برفع معدلات الفائدة، ولكن ليس بأكثر من 4 في المائة، وفي رأيي أن الزيادات المرتفعة لمعدلات الفائدة التركية أشبه بالمحاولات اليائسة لإنقاذ الليرة من التدهور ولتجنب أزمة كامنة لليرة في الأسواق المالية الدولية، التي أخذت ملامحها تتسع في الأيام السابقة على اجتماع البنك المركزي، فضلا عن تعزيز ثقة الأسواق بقدرة البنك المركزي التركي على السيطرة على الانخفاض في قيمة الليرة، وتعزيز سمعته في هذا الجانب. ليس هناك من خلاف على أنه لم يكن هناك خيار أمام البنك المركزي سوى اتخاذ إجراء في هذا المجال، ولكن حجم الرفع في معدلات الفائدة كان كبيرا إلى الحد الذي تزداد معه المخاوف من أنه ستكون له تأثيرات سلبية في النمو الاقتصادي الذي يواجه مشكلات في الوقت الحالي كما ذكرنا. أكثر من ذلك فإنه ليس من الواضح ما إذا كان رفع معدلات الفائدة سيؤدي إلى تعزيز قيمة الليرة التركية في الأسواق على المديين القصير والمتوسط أم لا. لقد نظر المراقبون إلى الارتفاع في معدلات الفائدة على أنه سيعطي الليرة بعض الدفع المؤقت، إلا أنه لن يؤدي إلى إنهاء التقلب الشديد الذي تواجهه في الأسواق، ذلك أن استخدام معدلات الفائدة للدفاع عن العملة غالبا ما تكون عواقبه وخيمة، إذ يمكن استخدامه مرة أو لمرات محدودة جدا، ولكن لا يمكن تكرار استخدامه كسياسة للدفاع عن العملة، خصوصا على هذا النحو الكبير، فضلا عن أنه في الحالات الهشة غالبا ما يكون تأثيره محدودا، وهذا ما حدث مع الليرة التركية، فقد ارتفعت قيمة الليرة التركية صباح الأربعاء إلى 2.229 للدولار مستفيدة من القرار، ولكن لم يمر ظهر اليوم حتى تراجعت مرة أخرى إلى 2.3 للدولار تقريبا، وحتى الانتهاء من كتابة هذا التحليل لم تفلح الخطوة التي اتخذها البنك المركزي التركي في رفع قيمة الليرة، وظلت قيمة العملة التركية منخفضة ولم تستعِد العملة مستوياتها السابقة قبل رفع معدلات الفائدة. كانت معدلات الفائدة قبل الرفع تقترب من 8 في المائة التي تعد مرتفعة بالمقاييس الدولية، إلا أنها تقترب بشكل كبير من معدل التضخم، ومن ثم فإن هذا الارتفاع الكبير في معدلات الفائدة سيؤدي إلى زيادة العوائد الحقيقية على الأصول المقومة بالليرة التركية وبالطبع يهدف إلى استعادة ثقة المستثمرين بالأصول المقومة بالليرة، وبأن البنك المركزي مستعد لاتخاذ أي إجراء للحفاظ على قيمتها، ومن المفترض أن يساعد رفع معدلات الفائدة على خفض الضغوط التضخمية من خلال التأثير السلبي في نمو الطلب الكلي في الاقتصاد، لكن المشكلة الأخطر في وجهة نظري هي آثار ذلك على المدى المتوسط في النمو، خصوصا أن الاقتصاد التركي يواجه صعوبات في الوقت الحالي، الأمر الذي قد يعقد من مشكلة الحزب الحاكم في الانتخابات المقبلة، وقد أكد البنك المركزي أنه سيستخدم كل ما في جعبته لمواجهة الآثار المعاكسة في التضخم والاستقرار الاقتصادي، كما أعلن أيضا أن أي معلومات أو بيانات جديدة ربما تدفعه لإعادة تغيير موقفه. على الرغم من انخفاض الدين الخارجي للحكومة التركية كنسبة من الناتج، إلا أن التزامات الشركات التركية بالنقد الأجنبي ترتفع على نحو واضح، التي تختلف حسب القطاع الذي تعمل فيه الشركات الخاصة، ويراوح هذا الالتزام بين 50 في المائة بالنسبة للشركات الخاصة العاملة في القطاع الصناعي إلى 70 في المائة بالنسبة للشركات العاملة في قطاع البناء. لذلك يتوقع المراقبون أن تركيا قد تحتاج إلى تكثيف عمليات الاقتراض هذا العام بصفة خاصة من جانب شركاتها والبنوك العاملة فيها حتى تتجنب مشكلة سيولة، وحتى تتجنب اللجوء إلى المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، وهو ما قد يؤدي إلى استمرار الضغوط مرتفعة على الليرة. إن تجربة العالم في أثناء أزمة العملات الآسيوية في التسعينيات من القرن الماضي أظهرت أن هيكلا للالتزامات للشركات الخاصة على هذا النحو كان له دور مهم في الأزمة، ذلك أن ارتفاع التزامات الشركات بالنقد الأجنبي سيعني انخفاض قيمة أصول الشركات بالعملة المحلية عندما تتراجع قيمة العملة. اليوم تراقب السلطات النقدية في الدول الناشئة الأخرى عن كثب نتائج الخطوة التركية وذلك لتقييم مضامين مثل هذه الخطوة، وما إذا كان من الممكن أن تستخدم سلاح معدل الفائدة للدفاع عن عملاتها، ولكي تحول دون هبوطها مسببة موجة من التراجع في أدائها الاقتصادي في سبيل استقرار عملاتها.
مشاركة :