بعد يومين.. وفي السادس والعشرين من هذا الشهر، تمر ستون عاماً على يوم قد لا تذكره أجيال عدة بعد بها الزمن عن ذلك اليوم، لكن سيبقى في الذاكرة العربية يوماً خالداً من أيام التاريخ. في مثل هذا اليوم قبل ستين عاماً وقف الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ليلقي خطاباً سنوياً اعتاد إلقاءه في عيد ثورة يوليو، لكن في هذا الخطاب الشهير ألقى قنبلته المدوية في تسع كلمات غيّرت وجه التاريخ والمنطقة والعالم: تؤمم الشركة المصرية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية. قد تسمع هذه الكلمات الآن فتتصور أنك أمام حدث عادي، أما في هذا الوقت فقد كان الأمر إعلاناً بأن العالم يتغير، وبأن الشعوب قد استيقظت، وأن الإمبراطوريات التي عاشت على الهيمنة واستغلال ثروات الدول المقهورة قد آذنت شمسها بالمغيب. لم يكن قد مضى على ثورة يوليو سوى أربع سنوات، لكن مصر كانت قد تغيرت خلالها، وتغيرت المنطقة، كان ما بدأ حركة عسكرية قادها ضباط الجيش المصري قد تحول إلى ثورة حقيقية غيّرت المجتمع ورسخت أسس العدالة الاجتماعية، وبدأت حركة التصنيع وانطلقت إلى العالم العربي تؤكد عروبة مصر، وتدعم نضال الشعوب العربية للتحرر، ثم تبدأ من باندونج وحدة الشعوب ضد هيمنة القوى الكبرى في الشرق أو الغرب. وبينما كانت مصر نفسها تخوض نضالاً للتخلص من احتلال بريطاني استمر يحتل المدن المطلة على قناة السويس بورسعيد والإسماعيلية والسويس بدعوى حمايتها ولإثبات سطوته وسيطرته على هذا الممر المائي المهم عن طريق أضخم قاعدة عسكرية أجنبية في ذلك الوقت، حيث كانت تضم ثمانين ألف جندي بريطاني، وأسطولاً هائلاً من الطائرات الحربية. بينما كانت مصر تضغط للخلاص من هذا الاحتلال، كانت جماعة الإخوان كعادتها تمارس ما تعودت عليه من خيانة للأوطان، ومن تعامل مع الأعداء. خاصة أنها نشأت في أحضان الاحتلال البريطاني وبرعايته ودعمه هو وشركة قناة السويس التي كانت تسيطر عليها فرنسا في ذلك الوقت. ولم تمنع محاولة الإخوان اغتيال عبد الناصر، من النجاح في التوصل لاتفاقية الجلاء عام 1954 التي أعطت القوات البريطانية 18 شهراً انتهت برحيل آخر جندي منهم في 18 يونيو 1956. ليأتي القرار بتأميم قناة السويس واستعادتها لمصر بعد أسابيع، رداً على القرار الأميركي - الغربي بسحب تمويل بناء السد العالي، ليكون القرار أننا سنبني السد بأموال القناة التي كانت تنهب على مدى السنين في إهانة لشعب مصر ولشهدائه الذين فاقوا المائة ألف شهيد وهم يعملون بالسخرة في حفر القناة.. لتذهب بعد ذلك إلى غير أصحابها! بعدها كان العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل، وكان الصمود الأسطوري لشعب مصر في ملحمة بورسعيد الخالدة، وكان الفشل والعار الذي لحق بالغزاة مع اضطرارهم للانسحاب وتسليمهم بالهزيمة التي كتبت بداية النهاية للإمبراطوريتين اللتين كانتا تحكمان العالم قبل الحرب العالمية الثانية. وانفتحت أبواب الحرية لكل الشعوب العربية، وبعدها لشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. تحرر شمال أفريقيا من الاحتلال الفرنسي، واضطرت بريطانيا لإعلان الانسحاب مما أسمته شرق السويس مع بداية السبعينيات، وكما شاهدت خروج آخر جنود الاحتلال البريطاني في مصر من مدينة بورسعيد عام 1956، كتب لي القدر أن أشاهد انسحابهم من الخليج العربي وإعلان الراحل العظيم الشيخ زايد قيام دولة الإمارات في أوائل السبعينيات. كانت أياماً صعبة، لكنها كانت أياماً للمجد وللأحلام العربية وللانتقال من عهد الاحتلال إلى ضفاف الحرية بكل ما تعنيه من كرامة ومن تحمل للمسؤولية. خاصة بعد عهود من الاستغلال التي تم فيها نهب موارد الشعوب المستضعفة لكي يبني الغرب نهضته على حسابها! ومن صيحة عبد الناصر في 56 وهو يعلن تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية إلى كلمات الشيخ زايد الخالد البترول العربي ليس أغلى من الدم العربي. كان العرب قد قطعوا شوطاً كبيراً على طريق التقدم واستعادة القرار وإيقاف نهب ثرواتهم وسحق إرادتهم. نستذكر تلك الأيام الصعبة والمجيدة، لنقول للأجيال الجديدة إننا - رغم كل شيء - لم نكن يوماً نملك الإمكانات التي تمتلكها الأمة حالياً، ومع ذلك كافحت الشعوب العربية حررت أوطانها واستعادت ثرواتها، وتحدت المصاعب وانتصرت على الهزائم وعرفت كيف تشق طريقاً للتقدم سارت فيه دول فأنجزت، وتعثرت أخرى أو تم استهدافها، فلم تحقق ما كان مأمولاً (!!) ثم تدمير دول عربية أساسية، وأصبح مصير دول أخرى في يد قوى الإرهاب أو قوى إقليمية تتباهى بأنها ترفع أعلامها على عواصم عربية تقول إنها أربعة.. وتهددنا بأن عددها سيزداد. تلتئم القمة العربية في موريتانيا ولا ننتظر منها الكثير، وربما لا ننتظر شيئاً أساسياً على الإطلاق. لكننا نتذكر لكي تبقى الذكرى الوطنية والآمال القومية حية رغم كل الظروف التي نواجهها. ولكي نقول: إننا استطعنا أن نغيّر التاريخ حين أردنا، وأننا نستطيع أن نكرر ذلك رغم كل الصعاب.
مشاركة :