بين المثقف والمفكر هناك مقاربات متعددة ومتباينة يجري الحديث عنها ويتجدد في المجالين الفكري والنقدي العربي والإسلامي، من هذه المقاربات المتباينة ما وجدته ظاهرا بين الناقدين الإيراني علي شريعتي (1352 - 1397هـ/ 1933 - 1977م) واللبناني علي حرب، وهي مقاربة لا بأس من الإشارة إليها، والتوقف عندها، فهي تكشف عن هامش في الاختلاف، وتعدد في وجهات النظر، بشكل يمكن أن يثري النقاش النقدي، ويطور طرائق الفهم لهذه المقاربة الجادة والملتبسة أحيانا. أشار الدكتور علي شريعتي لهذه المقاربة في كتابه (العودة إلى الذات)، الذي صدر في حياة المؤلف متفرقا على فترات ما بين حقبتي ستينات وسبعينات القرن العشرين، ويعد واحدا من أهم مؤلفات الدكتور شريعتي، ويتضمن شرحا لطبيعة مشروعه الفكري الوثيق الصلة بفكرة العودة إلى الذات. صدر هذا الكتاب بالعربية كاملا سنة 2006م، قام بترجمته أستاذ اللغات الشرقية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، والخبير في شؤون الأدب الفارسي الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا. وكنت قد اشتغلت على هذا الكتاب، بإعداد دراسة تقديمية موسعة، جاءت بتكليف من مكتبة الإسكندرية، وصدرت هذه الطبعة مع هذا التقديم سنة 2011م، ضمن أعمال سلسلة: (في الفكر النهضوي الإسلامي)، وفي إطار مشروع: (إعادة إصدار مختارات من كتب التراث الإسلامي الحديث في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، التاسع عشر والعشرين الميلاديين)، والذي تشرف عليه مكتبة الإسكندرية في مصر. أراد الدكتور شريعتي من هذه المقاربة تغليب صورة المفكر على صورة المثقف، والانتصار لصورة المفكر، وإظهار التناغم مع هذه الصورة، والتحيز لها، وتأكيد الحاجة إليها، وإعطاء هذه الصورة صفة التفوق من خلال مقاربتها ومقارنتها مع صورة المثقف، والكشف عما يعتري هذه الصورة للمثقف من نقص أو ضعف. عن هذه المقاربة يرى شريعتي من الوجهة الوظيفية، أن وظيفة المثقف والعالم هي إدارة الحياة، ودفع المجتمع إلى التقدم، وتحصيل القوة والمنفعة والرفاهية، وتحسين أوضاع الإنسان، أما وظيفة المفكر فهي تتصل بحركة الحياة، وهداية المجتمع، وتغيير الإنسان وانضاجه أو تحسين حاله. ومن جهة العلاقة بالمجتمع، يرى شريعتي أن المثقف يستطيع أن يكون غريبا عن المجتمع الذي يعيش فيه، لا يعلم أين هو؟ ولا في أي زمان يعيش؟ ومع من يعيش؟ أما المفكر في نظر شريعتي فالسمة البارزة فيه هي معرفة مجتمعه معرفة حقيقية ومباشرة، يحسن التفاهم مع قومه، ويتقن معرفة عصره، ويعيش الإحساس بآلام العصر، ويدرك في أي مرحلة من التاريخ يعيش مجتمعه، ويكون واعيا بزمانه الاجتماعي. أما علي حرب فقد أشار لهذه المقاربة النقدية في كتابه الذي أثار نقاشا نقديا في وقته والموسوم بـ (أوهام النخبة أو نقد المثقف) الصادر سنة 1996م، وأعاد التذكير بهذه المقاربة بنوع من القبض والتركيز في كتابه (الماهية والعلاقة.. نحو منطق تحويلي) الصادر سنة 1998م. عن هذه المقاربة يرى حرب أن المثقف بوصفه يدافع عن الحقوق، ويناضل من أجل الحريات، فإنه يمارس نقده على ما سماه «جبهة الممنوع» ويقصد به ما يمنع خارجا في الواقع الموضوعي، سواء بسبب المحرمات والضغوطات الاجتماعية، أو من قبل السلطات المختلفة السياسية أو الدينية، وحتى الأكاديمية في بعض الأحيان. ومن وجهة اخرى، يرى حرب أن المثقف بوصفه داعية أو مناضلا فإنه يتعامل مع أفكاره تعامل المبشر أو المروج، وفي حالة أخرى يتعامل مع الأفكار بوصفها صورة عن الواقع، أو بوصفها تخلق الواقع على طريقة كن فيكون، ولهذا فهو لا يحسن التعاطي مع الواقع. أما المفكر في نظر حرب وبخلاف المثقف، فهو يركز نقده على ما سماه «جبهة الممتنع» ويقصد به ما يتصل بعالم الفكر والتفكير، ولهذا يهتم المفكر بتفكيك العوائق الذاتية للفكر، كما تتمثل في عادات الذهن، وقوالب الفهم، وأنظمة المعرفة، وآليات الخطاب، والمفكر في النهاية هو صانع أفكار، أو مبتكر مفاهيم، أو خالق بيئات مفهومية، هذه هي مهمة المفكر المفارقة لمهمة المثقف. والإشكالية التي يراها حرب حاصلة في المجال العربي، هي أن مهنة المثقف ازدهرت على حساب صناعة الفكر، وقد وجد حرب أن متى ما برز المثقفون ومارسوا أدوارهم الدفاعية، غاب المفكرون أو قل الإبداع الفكري. وأول ما يلفت الانتباه إلى هاتين المقاربتين المتباينتين، أن الناقدين شريعتي وحرب يشتركان من جهة تبني مفهوم المفكر، والتمسك بهذا المفهوم، والدفاع عنه، والإعلاء من شأنه، والانتصار له، لكن بطريقتين مختلفتين، فهناك تباين في تمثلات الصورة، وتباعد في منظورات الرؤية، فالرؤية التي يدافع عنها شريعتي هي الرؤية التي ينقدها حرب وهكذا العكس، وصورة المفكر عند شريعتي تطابق صورة المثقف عند حرب، وصورة المفكر عند حرب تطابق صورة المثقف عند شريعتي، والحديث له تتمة.
مشاركة :