اعتمد الفكر العربي الحديث استراتيجيتين للتنوير، قامت الأولى على تحويل وجهة الفكر إلى المتاح العالمي، أي أساساً التيارات الفلسفية والعلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب والفنون العالمية. وتحققت بفضل هذه الاستراتيجية مكاسب مهمة منها خروج الفكر العربي من القضايا الساذجة والخرافية التي ما زالت مؤلفات القرن الثامن عشر تشهد على انحطاطها، حتى أنّ هذه المؤلفات لم تستوعب آنذاك المعارف التي أصبحت من صنف البداهة كونياً، مثل تحديد عدد القارات في الأرض والحسم في مسألة دوران الأرض وتحديد أسباب الأوبئة وإيجاد طرق بسيطة لإجراء عمليات القسمة والضرب. ومن كلّف نفسه مشقة مراجعة هذه المؤلفات، وهي موجودة، أدرك عمق الهوة آنذاك بين المعارف العربية والمعرفة الكونية. أصبح الفكر العربي بعد ذلك وبفضل مثقفيه الجدد وانفتاحه على الثقافة الحديثة، في موقع أكثر تقدّماً من دون أدنى شكّ، لكنّه أصبح أيضاً نخبوياً، لأنه انفصل نسبيا عن التمثلات العامة المتاحة للعدد الأكبر من الناس وعن قنوات الاتصال الأكثر شعبية. التصقت بالمثقف، نتيجة هذا المعطى الأخير، تهمة النخبوية والتفكير من الأبراج العاجية والتنكّر للثقافة «الأصيلة». تمثّل هذه التهمة في ذاتها شاهداً على وضع مجتمعات تمشي على رأسها. إذ بدل أن يقع التأسف على مدى التخلف الفكري السائد، أصبح الخطأ في المثقف لأنه يتحدث من موقع المعرفة الكونية الحديثة. ومع ذلك، فقد مارست هذه التهمة ضغطاً نفسياً على المثقفين وأشعرتهم بالذنب ودفعتهم إلى مراجعة هذه الاستراتيجية كي تصل المعارف الحديثة إلى شرائح أوسع من الناس، وهذا مسعى محمود. إذ إنّ جوهر التنوير عدم الاكتفاء بتوافر المعرفة وإنما السعي إلى نشرها وتعميمها، كما يجسّد هذا المسعى الفارق بين الخبير الذي يعرض معارفه من منطلق مهني والمثقف الذي يعرضها من منطلق نضالي. وعلى هذا الأساس، حدث الانتقال إلى الاستراتيجية الثانية التي تقوم على تشييد جسور تواصل بين المعارف الحديثة والتراث، لعلّ فكرة العقلانية تحظى بقبول أكبر عندما تطرح مرتبطة بابن رشد، والعلوم الإنسانية بابن خلدون، والفلسفة بابن سينا والغزالي، وحرية المعتقد بالرازي الطبيب، والسياسة المدنية بابن المقفع والفارابي، وتاريخ الأديان بالبيروني، والرؤية العلمية للكون بالبطروجي، الخ. تحافظ هذه الاستراتيجية الثانية على مكاسب سابقتها وتضيف إليها مكسب «تأصيل» المعارف الحديثة بتأكيد وحدة العقل البشري. وإذا راجعنا ابن رشد مثلاً في قضية العقلانية، فذلك لا يعني أن نبقى في مستوى تحليله القضية، وإنما نجعله المدخل لطرحها في صيغة مألوفة ولغة معروفة ومن دوافع قد تكون أكثر جاذبية. لكن هذه الاستراتيجية الثانية أبانت أيضاً مساوئ لم تكن متوقعة في البداية، أهمها الإسقاط على التراث والسقوط فيه. فالإسقاط هو قراءة التراث بمشاغل غير مشاغل معاصريه، وتفسير مصطلحاته بغير ما كان يفهمه أهله، وتوظيفه في قضايا لم تكن مطروحة في عهده. فوحدة العقل البشري لا تعني أنّ الناس جميعاً فكّروا في القضايا ذاتها وبالطريقة نفسها في كلّ الأزمنة والأمكنة. وافتراض ذلك يؤدّي إلى نسف تاريخية الأفكار وتطوراتها المتشعبة، وإلى نسف الحدّ الأدنى من الوعي الفيلولوجي الضروري الذي يميز المعرفة التاريخية عن المعرفة العامية. أما السقوط في التراث فهو تحويله من وسيلة إلى غاية، ومن منطلق إلى نهاية، وتحويل الطاقات إلى الخوض في قضايا من الماضي، والاستماتة في مناصرة هذا التيار التراثي أو ذاك، وهذه المدرسة على حساب أخرى، وهذه الشخصية دون أخرى، والغرق في مشادات لا معنى لها إلاّ في سياقاتها الأصلية. وهذه قمّة الاستلاب الذي يمكن أن يبلغه العقل البشري. من المهم أن لا تتحوّل استراتيجيا طرح القضايا من خلال المخزون الثقافي للمجموعة المتوجّه إليها بالحديث، إلى تفكير بسيط يعيد الآراء السائدة والمتعارف عليها داخل المجموعة، فهذا الموقف لا يطوّر المعرفة ولا ينفع الناس ولا يحقّق مهمة التنوير. وإنما المطلوب التفكير في قضايا المجموعة من خلال الأفق الكوني، والسعي إلى أن تبلغ هذا الأفق وتصبح مساهمة وفاعلة في نحته وإنتاجه. من هنا، ينبغي التخفيف من الشعور بالذنب في أن تكون الثقافة متسمة بنوع من الاستعلاء والنخبوية، بل هذا ضروري ومطلوب، طالما كان الهدف نقدياً وتفاعلياً، وليس مجرّد تضخيم للذات وتعالم وشقشقة ألفاظ وعبارات.
مشاركة :