ظلت الدولة العثمانية قائمة لمدة ستة قرون (1299 - 1924م) وتمددت رقعتها حتى وصلت لثلاث قارات. وكان أحد أسباب تمدد وقوة الدولة العثمانية هو الجيش «الإنكشاري» العتيد، الذي ترجع بداية تكوينه إلى عهد السلطان «أورخان الأول» سنة 1324م، وذلك بتبني أسرى الحروب من الغلمان والشباب وتدريبهم تدريباً عسكرياً وتربيتهم تربية إسلامية، ليكون السلطان والدهم الروحي، وتكون الحرب صنعتهم الوحيدة. ولقد أبلى الجيش الإنكشاري بلاءً حسناً في كافة المعارك التي خاضها العثمانيون إبان قوتهم، وكان لهم الفضل في ترجيح كفة النصر في العديد من المعارك. ولكن مع مرور الزمن، بدأت تفسد أخلاق الإنكشارية وتبدلت مهمتهم بعد انغماسهم في الشهوات وازداد نفوذهم، وأصبحوا يتدخلون في شؤون الدولة، ليأمروا وينهوا فيها، حتى على السلاطين أنفسهم، ومن يخالفهم منهم يعلنون عليه التمرد، بل قد يتم قتله أو خلعه، كما حصل مع أكثر من سلطان، مثل: السلطان إبراهيم الأول ومصطفى الثاني، وأحمد الثالث. وقد حصل آخر تمرد للإنكشارية في عام 1826م، عندما انطلقوا في شوارع إسطنبول يشعلون النار في مبانيها، ويهاجمون المنازل ويحطمون المحلات التجارية، وحين سمع السلطان محمود الثاني، المعروف بحنكته، بخبر هذا التمرد عزم على وأده بأي ثمن والقضاء على الإنكشارية للأبد، فاستدعى عدة فرق عسكرية ودعا الشعب إلى النزول في الشوارع وقتال الإنكشارية. وخرجت قوات السلطان في إسطنبول لمواجهة الإنكشارية، التي احتمت في ثكناتها، ليقوم فريق مدفعية السلطان بإطلاق المدفعية على تلك الثكنات، ويقتل ستة آلاف جندي إنكشاري في تلك المعركة، التي سميت بـ»الواقعة الأخيرة». وقام السلطان محمود الثاني بإعدام أو عزل الناجين منهم، وأصدر قراراً بإلغاء الفيالق الإنكشارية، وانتهى بذلك تاريخ هذه الفرقة للأبد. وقد أعاد التاريخ نفسه في جيش الدولة التركية الحديثة، الذي قام بأربعة انقلابات عسكرية، أولها كان في عام 1960م، ليصبح الجيش هو المتحكم في شؤون الدولة والأمور السياسية، على مدار جميع الحكومات التي تولت مقاليد الحكم. فأصبح الجيش التركي ينقلب على الحكومة التي لا يتفق معها، كما كان يتمرد الإنكشارية على السلاطين العثمانيين، إلى أن جاء حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا عام 2002م، الذي قاده رجب طيب أردوغان، الرجل القوي ، ليقوم بإضعاف قبضة الجيش ولكن الجيش لم يكن ليخضع بسهولة، ليقوم بمحاولة الانقلاب الأخيرة الفاشلة قبل أسبوعين تقريباً، والتي فشلت بسبب الشعب التركي الذي نزل للشوارع والميادين للحفاظ على دولتهم، بعد أن طلب منهم أردوغان النزول، تماماً كما طلب السلطان محمود الثاني من الشعب النزول والوقوف في وجه الإنكشارية في آخر تمرد لهم، ولكن الفيصل كان في محاولة انقلاب الجيش مؤخراً هو الشعب التركي الواعي، وليس فريق المدفعية الذي حصد جنود الإنكشارية في معركة «الواقعة الأخيرة». الحكومة التركية بدأت في اعتقال الانقلابيين بأعداد كبيرة ، بشكل قد يراه البعض مهيناً للمؤسسة العسكرية، كما قام السلطان محمود الثاني بتصفية حساباته مع الإنكشارية، وأضحى رجل الشارع الآن لا يُقدِّر الجيش كما كان من قبل ، مما قد يسبب مزيداً من الاحتقان لدى الجيش وربما يسعى لرد هيبته بأي ثمن.!!. وسيظل غير معلوم ما إذا كان الانقلاب الفاشل للجيش هو «الواقعة الأخيرة» له على يد أردوغان، أم أن هناك «وقائع أخرى» قادمة يرد فيها هيبته المفقودة ونفوذه الذي أفل في الدولة.؟!!. q.metawea@maklawfirm.net
مشاركة :