قفز الواقع المالي - الاقتصادي في لبنان الى الواجهة في الأيام الأخيرة، في ضوء التقرير الذي وضعه وزير المال علي حسن خليل وقرع معه «ناقوس الخطر» ملقياً الضوء بـ «الأرقام» على التحديات التي تواجهها البلاد ومقترحاً سلسلة خطوات لمواجهتها وبينها ضرورة إقرار الموازنة العامة لسنة 2017 وإصلاح قطاع الكهرباء وإصلاحات ضريبية لتحفيز الاقتصاد وإطلاق قطاع النفط والغاز والحوْكمة السليمة لمحاربة الفساد. واذا كان التحذير من خطورة الاستنزاف المالي، الذي يرتبط في جانبٍ منه بمعضلة الهدر والفساد والحاجة الى إصلاحات بنيوية وبجانب آخر بالأزمة السياسية المستفحلة في ظل الفراغ المتمادي في سدة رئاسة الجمهورية الى جانب الواقع الاقليمي المتفجّر ولا سيما في سورية وتشظياته لبنانياً، فإن ما جعل «العيون مفتوحة» على الواقع المالي يكمن في أن هذا الأمر تَرافق مع تطوريْن اساسييْن: * الأول خفض وكالة «فيتش» الأميركية تصنيف لبنان الائتماني إلى B- من B الأسبوع الماضي، مستندة إلى المخاطر السياسية والأثر الكبير للحرب الدائرة في سورية على الجانبين السياسي والاقتصادي في لبنان. علماً ان آخر مرة حصل فيها لبنان على تصنيف B- كانت في العام 2006 إبان الحرب بين إسرائيل و«حزب الله». * والثاني بروز توافق بين كل الاطراف داخل مجلس الوزراء على وجوب إقرار موازنة عامة، بعد 11 عاماَ على آخر موازنة، كخطوة اساسية لاعادة تفعيل الاقتصاد الراكد منذ 2011، قبل ان يبرز شرط «التيار الوطني الحر» الذي يقوده العماد ميشال عون، الذي ربط إقرار الموازنة بانتخاب رئيس للجمهورية وببتّ مسألة الحسابات المالية العالقة عن فترة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة (بين 2006 و2009) والمقدّرة بـ 11 مليار دولار وإجراء قطع لحساباتها، وهو ما سبق لتيار «المستقبل» ان حسم موجباته التي دفعت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الى اعتماد آلية الانفاق نفسها وبمبالغ أكبر (من خارج قاعدة الاثني عشرية). وفيما عبّر هذا المناخ، معطوفاً على تراجُع احتمالات أيّ إقرار للموازنة بمرسوم وفق المادة 86 من الدستور والتي تسمح لمجلس الوزراء - من ضمن آلية غير سهلة - بإقرار الموازنة بمرسوم يصدر عن رئيس الجمهورية، فإن «الراي» علمت ان وزير المال في صدد إنجاز مشروع الموازنة لرفْعه الى مجلس الوزراء قبل سبتمبر المقبل. ويرتكز مشروع الموازنة المرتقب على روحيّة التقرير المالي المفصل (68 صفحة) الذي وضعه الوزير خليل وخلاصاته هو الذي عرض كل أرقام المالية العامة وللمؤشرات الاقتصادية والنقدية، مع توقعات الوزارة لغاية 2020. وهو طرح سيناريوان لهذه الأرقام، اذا أُقرت الاصلاحات وإذا لم تُقرّ، مع ربطٍ لافت بين وجوب الوصول الى استقرار سياسي، واعادة تفعيل المؤسسات الدستورية والى انتخاب رئيس للجمهورية وبين تفعيل الاقتصاد الوطني. وأبرز ما جاء في التقرير المالي الذي حمل عنوان «نظرة عن الوضع الاقتصادي والمالية العامة مع اقتراحات»: 1- ان لبنان يمرّ بمرحلة اقتصادية حرجة نتيجة عوامل عدة أهمّها غياب الخطط والأزمة السورية والركود في الدول النفطية. 2- ان اقتصاد لبنان يعاني معدل نمو منخفضاً، وهو أمر يقلّص مصادر ايرادات الدولة ويرفع العجز، وبالتالي الدين وخدمته. وفي هذه النقطة توقع التقرير ان يرتفع العجز الى نحو 7.5 في المئة من الناتج المحلي (المقدر بـ 51 مليار دولار) في العام الجاري، اما الدين العام فيتوقع ان ترتفع نسبته الى ما يقارب الـ 144 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2016، والى 151 في المئة في العام 2017 اذا لم يتم اعتماد اصلاحات جدية، كذلك توقع ان تبلغ خدمة الدين نحو 4.6 مليار دولار نهاية العام الحالي. 3- تم تحويل مبلغ 10 مليارات دولارات بين 2010 و2015 لسد عجز كهرباء لبنان. 4- مزيد من التراجع شهدته الايرادات كنسبة من الناتج المحلي من 23.3 في المئة عام 2011 الى 18.9 في المئة عام 2015. الى ماذا تدلّ كل هذه المؤشرات؟ يقول كبير الخبراء الاقتصاديين في بنك «بيبلوس» الدكتور نسيب غبريل لـ «الراي»، ان وزير المال «قدّم صورة واقعية عن وضع المالية العامة والحركة الاقتصادية ككل، فالواضح ان النمو الى تباطؤ، والحركة الاقتصادية كانت في الأشهر الستة الأولى من السنة في حال ركود. اما بالنسبة للمالية العامة، فالعجز في الموازنة لا يزال موجوداً، وهو ما يؤدي الى ارتفاعٍ سنوي في الدين العام. وقد شهدنا الاسبوع الماضي، خفض تصنيف لبنان الائتماني من مؤسسة التصنيف الائتماني - فيتش، من ال b الى b-، كما ان وكالة التصنيف موديز، أبقت نظرتها السلبية الى القطاع المصرفي اللبناني». ويؤكد «ان خطوة وزير المال في مكانها، لانها تنبّه من الاوضاع التي تمرّ بها البلاد، سواء كان اقتصادياً ام من ناحية المالية العامة، وتحضّ على ضرورة اتخاذ اجراءات لخفض العجز في الموازنة العامة وبالتالي خفض حاجة الدولة للاستدانة». ومن وجهة نظر غبريل، فإن قراءة التقرير بتفاصيله تختلف من محلل لآخر، «انما الاولوية يجب ان تكون لخفض الإنفاق العام». ويقول: «من ناحية الايرادات، يجب تحسينها من خلال مكافحة التهرب الضريبي وتفعيل الجباية، وليس من خلال فرض ضرائب جديدة او رفع نسبة ضرائب موجودة، فاليوم في ظلّ وجود نسب نمو اقتصادي ضئيلة جداً، ومع انخفاض ثقة المستهلك لا يمكننا الحديث عن ضرائب جديدة، إن كانت ضرائب على الدخل، او ضرائب على الاستهلاك او ضرائب على الارباح، فالهدف اليوم هو تحفيز النمو الاقتصادي بما يؤدي الى زيادة الواردات الضريبية، بالتوازي مع مكافحة التهرب الضريبي، وهذا من شأنه ان يجنّب الدولة اللبنانية زيادة الضرائب او فرض ضرائب جديدة». ويضيف: «اما من ناحية النفقات، فنحن نعرف ان الدولة تنفق 14 مليار دولار سنوياً. واذا قارناها بالقطاع الخاص الذي يعمل منذ عدة سنوات على خفض نفقاته والحدّ من التوظيف، بالإضافة الى اتخاذ اجراءات تقشفية بسبب الوضع الاقتصادي الحالي في لبنان، فمن المؤكد ان الدولة لديها الادوات الكافية لعصر نفقاتها كالقطاع الخاص، واذا توافرت الإرادة السياسية يمكنها ان توفّر بالحد الادنى 10 في المئة سنوياً من النفقات العامة». وعند سؤالنا عن كيفية عصر النفقات وخفضها، يجيب بأن «مكافحة الهدر في المال العام هو اول خطوات خفض النفقات، وثانياً الحدّ من التوظيف في القطاع العام، لاننا كما رأينا فإن البند الأساسي في الموازنة العامة في النفقات هو الأجور والرواتب التي تشهد ارتفاعاً تدريجياً، على عكْس ما يحصل في القطاع الخاص، اي اننا نشهد انفلاشاً للقطاع العام في موضوع التوظيف وانكماشاً في القطاع الخاص. وفي الاساس العكس هو ما يجب ان يحصل كي نرى حركة اقتصادية صحية». ويرى غبريل ان هذه الاجراءات تتطلب ايضاً تعزيز النفقات الاستثمارية، «ولاننا اليوم نتجه الى عدم الاستدانة بشكل مرتفع، فالحلّ الأساسي هو إقرار مشروع الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، والذي يجنّب الدولة المزيد من الاستدانة للنفقات الاستثمارية التي تُعتبر نفقات ايجابية وحيوية تساعد على النمو وعلى تطوير البنى التحتية، كما تساعد على رفع مستوى تنافسية الاقتصاد اللبناني، ونحن نعرف ان البنى التحتية المترهلة وعبء القطاع العام على القطاع الخاص، هما سببان رئيسيان في تباطؤ الاقتصاد اللبناني». وفي موضوع الهبات والمساعدات المالية، يؤكد ان لبنان بحاجة لكل مساعدة مالية «سواء على شكل هبات او قروض ميسرة طويلة الاجل لانها تخفف الأعباء مالية على الدولة اللبنانية وعلى الموازنة العامة، وبالتالي على الخزينة»، لافتاً الى «ان من مصلحة لبنان الموافقة على هذه القروض او الهبات او المِنح بأسرع وقت». ويلفت الى ان غياب الموازنة العامة للبلاد طوال 11 عاماً كان من أبرز النقاط التي أثارها وزير المال في تقريره «لان إقرار الموازنة الشفافة والتي تحفز النمو الاقتصادي يساعد على تصنيفٍ ائتماني صحيح للبنان، وغياب الموازنة هو من الأسباب التي تدفع الى خفض التصنيف الائتماني كما شهدنا الاسبوع الفائت من قبل وكالة فيتش»، مشدداً على «ان إقرار الموازنة هو شيء حيوي للاقتصاد ككل وليس فقط للدولة او لمجلس الوزراء او للمالية العامة، فهو يحدد اولوية النفقات ومصدر الواردات كما يعطي صدقية لعمل المؤسسات العامة». وفي ما يتعلق بتحفيز النمو الاقتصادي، يرى غبريل ان هذا الأمر ذات اهمية في كل قطاعات الاقتصاد اللبناني «لانه ضرورة حيوية اليوم، فنسبة النمو الاقتصادي، بلغت 4.7 في المئة بين 2001 و 2010، بينما تراجعت الى 1.5 في المئة بين 2011 و 2015، ونشهد في اول ستة اشهر من العام 2016 ركوداً اقتصادياً، لكن من المحتمل ان يرفع موسم الصيف والاستقرار الأمني من نسبة النمو هذه الى 1.7 في المئة اذا استمر الاستقرار الى نهاية الموسم الصيفي»، موضحاً «ان تراجُع النمو ابتداءً من 2011 وحتى 2015 الى نسبة 1.5 ادى الى خسائر في الاقتصاد بلغت 24 مليار دولار، ما يعني ان حجم اقتصادنا كان يجب ان يكون 75 مليار دولار، لو بقي النمو بنسبة 4.7 في المئة التي كانت محققة بين 2001 و 2010، بينما أصبح 51 مليار دولار بسبب تراجع النمو الى 1.5 في المئة، ولذلك من طبيعة الامور ان تحفز الموازنة العامة النشاط الاقتصادي في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وليس فقط في الخدمات بل ايضاً في الزراعة والصناعة والتجارة والتكنولوجيا الحديثة واقتصاد المعرفة وتشجيع الاستثمارات الاجنبية المباشرة». ويشدد غبريل على «أهمية رفع تنافسية الاقتصاد اللبناني كي يصبح قادراً على منافسة الاقتصادات العربية الاخرى، والاقتصادات في الاسواق الناشئة لاستقطاب الاستثمارات الاجنبية المباشرة، واستثمارات اللبنانيين المغتربين، ولتشجيع الشركات العربية والاجنبية على الانتقال الى لبنان». وفي ما يتعلق باستمرار العجز 7.5 في المئة (من الناتج المحلي) حتى عام 2020، يقول «ان العجز في الموازنة ليس بالامر الجديد، فنحن منذ أعوام عدة نعاني من هذه الآفة، والعجز في الموازنة يراوح بين 7 الى 8 في المئة من الناتج المحلي وهي نسبة مرتفعة تؤدي الى ارتفاع نسبة الدين العام من الناتج المحلي والتي بلغت 138 في المئة في آخر 2015 او ما قيمته 72 مليار دولار». ويضيف: «لخفض العجز يجب ان يكون هناك برنامج على عدة سنوات، فنحن لا نستطيع خفض العجز بين سنة واخرى، ومن المؤكد ان وزير المال يعي ان هذا موضوع شائك يتطلب إرادة سياسية جامعة، ولذلك الاجراءات الاصلاحية يجب ان تكون متدرجة، وعلى عدة سنوات لتقلص تدريجاً العجز في الموازنة». وفي ما يتعلق بارتفاع نسبة الدين العام من الناتج المحلي الى ما لا يقل عن 146 في المئة حتى العام 2020، يؤكد انه «ما دام العجز في الموازنة مرتفعاً فان الدولة بحاجة للاستدانة، وما دامت الدولة هي مدينة فمن الطبيعي ان ترتفع نسبة الدين العام»، مضيفاً: «صحيح انها ترتفع احياناً بوتيرة بطيئة ولكنها تبقى مرتفعة، والحل لعدم ارتفاع الدين العام او لخفضه او حتى خفض نسبته بالنسبة للناتج المحلي يكمن بتحفيز النمو الاقتصادي، وثانياً بخفض حاجة الدولة للاستدانة». وتحفيز النمو الاقتصادي، حسب غبريل، يكون «بالاصلاحات البنيوية، وتحسين المناخ الاستثماري، وتطوير بيئة الأعمال، وإعادة تطوير البنى التحتية، وخفض كلفة المعاملات الادراية على القطاع الخاص في الادارات العامة، رفع مستوى تنافسية الاقتصاد. وكلها عوامل تساعد على تحفيز النمو الاقتصادي حتى في الجو الاقليمي غير المستقر، لان هذه الاجراءات محلية لا شأن لها بالأزمات الاقليمية كي نتحجج بها، وهي تتصل بإرادة صرف محلية وليس لها اي علاقة بالشأن الجيو- سياسي الاقليمي».
مشاركة :