من بين كل المشاهد الصادمة الآتية من تركيا الأسبوع الماضي، برزت صورة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مخاطباً مناصريه عبر «فايستايم»، واحدةً من أكثر الصور إثارة للنقاش الذي تجاوز إلى حد بعيد تركيا وجمهورها. متابعو الحدث التركي من الناشطين والصحافيين والأكاديميين وحتى الديبلوماسيين، تداولوا بكثافة عبر «تويتر» في البداية ووسائل إعلام عدة بعد ذلك، عشرات التعليقات التي توقفت عند «سخرية القدر» الذي فرض على أردوغان تجاوز حربه المعلنة على الإنترنت واللجوء إلى «فايستايم» لمخاطبة شعبه في اللحظة الحاسمة. وسط ضبابية متصاعدة زادت حدتها تقارير أولية تحدثت عن حجب وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا، وبينما كان الانقلابيون يهاجمون مبنى التلفزيون التركي، ظهر أردوغان عبر تطبيق هاتف «آبل» في رسالة مباشرة بثتها قناة «سي إن إن» التركية، استطاعت على الرغم من رداءة جودتها أن تحسم الأمور على الأرض لمصلحته. في تناقض تام مع صورة المذيعة المهنية والمتماسكة تقرأ مبتسمة وهي بكل أناقتها نص بيان الانقلاب في مقر «تي آر تي»، بدت مذيعة «سي إن إن التركية» أكثر ملامسة لحال الطوارئ التي تعيشها البلاد. كل تفاصيل المشهد من حولها تدل على أنها لم تكن جاهزة للظهور المباشر على الهواء. شعرها غير المنسق، غياب التبرج الضروري في إضاءة الاستوديو، القميص القطني الأبيض والخفيف، سماعتها الظاهرة، المايكروفون الذي حملته في يدها، حركتها المرتبكة وهي تبحث عن الكاميرا المناسبة والاتجاه المناسب للـ «آيفون» الذي حملته في يدها الثانية. بالدرجة نفسها من التوتر، نظرت إلى الشاشة المحمولة لبضع ثوان قبل أن تضعها في مواجهة الكاميرا ليظهر أردوغان متحدثاً من مكان غير معروف، في صورة «مهزوزة» لم يتجاوز كادرها بضعة سنتيمترات، كان لها الدور الأكبر في تثبيت صورته قائداً استثنائياً، بسرعته وحزمه، وربما فوق كل شيء براغماتيته. إفشال الانقلاب الذي يحسب بدرجة أولى لمصلحة أردوغان وفريقه هو من دون أي شك انتصار على خيار الديكتاتورية العسكرية التي كانت ستهدد كل مؤسسات الدولة وتعيد تركيا عقوداً إلى الوراء. الأتراك بفئاتهم المختلفة، بمن فيهم أشرس معارضي حزب العدالة والتنمية الذين أعلنوا مبكراً رفضهم لمبدأ أخذ السلطة بالقوة، أثبتوا أنهم لا يجدون في الانقلابات العسكرية التي حفل بها تاريخ تركيا الحديث حلاً. لكن ذلك لا يعني أنه ليست هناك مشكلة. وفي تفاصيل ظهور أردوغان عبر «فايستايم» لدعوة مناصريه للنزول إلى الشارع بعض الأدلة على ذلك. ففيما طالب الانقلابيون مناصريهم بالبقاء في بيوتهم، ناشد أردوغان مناصريه التظاهر في الطرق والساحات. ولعل أحداث حديقة «جيزي» في العام ٢٠١٣ هي أول ما يعود إلى الذاكرة عند التحدّث عن التظاهرات في الشارع التركي. «سي إن إن التركية»، منصة أردوغان في لحظة حكمه الحرجة، ولمزيد من سخرية القدر ربما، اختارت في تلك المرحلة تجاهل ما يجري في الشارع، وبينما كانت الشرطة تستخدم القوة المفرطة ضد المدنيين، استمرت في عرض تحقيق عن حياة البطريق. واتبعت هذا الموقف غالبية قنوات التلفزيون التركية المرتبطة بشكل أو بآخر بالحزب الحاكم. انقلاب المعادلة الساحات والطرق التي دعا أردوغان مناصريه للخروج إليها، والتي أرادها مسرحاً لهم يُسمعون العالم من خلاله هتافاتهم الداعمة له، هي نفسها تلك التي منع معارضيه من اللجوء إليها عندما أرادوا التظاهر ضد مصالحه. أكثر من ثلاثة ملايين تركي شاركوا بأكثر من خمسة آلاف تظاهرة في أكثر من ٩٠ مدينة تركية، اعتبرهم أردوغان وقتها «بعض اللصوص» لمجرد أنهم انتقدوا سياسته الرامية إلى «أسلمة النظام العلماني» في تركيا، إضافة إلى استشراء الفساد داخل حزبه و حتى عائلته. ولم يُظهر الرئيس أي حس ديموقراطي ضد خصومه المدنيين، يساريين كانوا أو يمينيين، علمانيين أو إسلاميين. فقمع تحركهم في الشارع بالقوة التي أوقعت ١١ قتيلاً، وأكثر من ٨٠٠٠ جريح، فضلاً عن الموقوفين الذين بلغ عددهم خلال هذه المرحلة أكثر من ٣٠٠٠ شخص. وإذا كان موضوع الشارع حساساً وجدلياً بين الناس، فإن الشق المتعلق بالإعلام، وخصوصا الإلكتروني، يزعج أردوغان إلى أقصى حد. وأي مراجعة سريعة لأوضاع الصحافيين من ملاحقات واعتقالات ومحاكمات وإغلاق لوسائل إعلامية خلال السنوات الماضية تؤكد ما تقوله تقارير دولية تضع تركيا في خانة الدول الأقل احتراماً لحق التعبير. «أنا أكره الإنترنت كل يوم أكثر،» قالها أردوغان بهذا الوضوح خلال مؤتمر حول حرية الصحافة والتعبير في العام ٢٠١٤، بحجة أن الإنترنت هو «الطريق الأفضل لتجنيد الإرهابيين». أن يكون الرجل قد لجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي في لحظة محنته لا يعني أنه تجاوز حالة الكره من طرف واحد تجاه العالم الافتراضي ووسائل إعلامه. فاستخدام «فايستايم» لإحباط انقلاب عسكري شيء، والسماح لموقع إلكتروني بنشر معلومات «قد» تدين الرئيس وحزبه شيء آخر، وما قرار حجب موقع «ويكيليكس» بعد إعلانه عن نشر 300 ألف رسالة من رسائل أردوغان وحزبه سوى دليل إضافي على ذلك. من المرجح أن أردوغان لا يزال على موقفه الواعد بعدم «ترك الناس تحت رحمة فايسبوك» وبعدم السماح ليوتيوب «أن ينقض على الشعب»، أما اللجوء إلى «فايستايم» فكان ضرورة فرضتها ظروف استثنائية، تسمح للقائد بما لا يسمح به هو لغيره. ليل الجمعة، دعم أردوغان رسالته الأولى عبر «فايستايم» بتغريدة خاطب من خلالها ٨.٦ مليون متابع له عبر «تويتر»، أتيح لهم أن تصل لهم رسالته لأنه رأى في هذه المناسبة بالذات أن تويتر لم يعد «خطراً على المجتمع» ولم يعد «مليئاً بالأكاذيب». مجرد لجوء أردوغان إلى وسيلة تواصل اجتماعية، أنهى نحو تسعين دقيقة من «البطء» على مستوى خدمات الإنترنت في البلاد كانت بدأت مع ظهور مؤشرات الانقلاب. وحتى لحظة كتابة هذه السطور لا يزال غير واضح ما إذا كان سبب هذا «البطء» تدخل أجهزة الدولة. قبل دقائق من ظهور أردوغان، نشر موقع «تويتر» تحت خانة سياسة الموقع، أن الإدارة «لا تملك أسباباً تجعلنا نعتقد أننا حجبنا بشكل كامل في تركيا، إنما لدينا شكوك في أن هناك إبطاء مقصوداً لحركة موقعنا في البلاد». وفي تحقيق نشرته صحيفة «غارديان» حول الموضوع، نفى ناطق باسم «يوتيوب» أن يكون الموقع قد تأثر بالأحداث: «نتلقى تقارير بأن الخدمة متوقفة في تركيا، ولكن أنظمتنا تبدو فاعلة بشكل عادي». ورفض «فايسبوك» من جهته التعليق، ولكن بدا واضحاً أن هناك بعض الخلل. التحقيق نفسه نقل عن «آكسس ناو»، وهي مجموعة ضغط لحق التعبير الإلكتروني، أنه في العام ٢٠١٦ وحده شهدت تركيا ثلاث مناسبات تم خلالها حجب المواقع بشكل كامل، كان آخرها الشهر الماضي، أثناء الهجوم الإرهابي على مطار أتاتورك، مضيفة أن الأمر بات طبيعياً بعد حكم قضائي في العام ٢٠٠٧ سمح للحكومة بحجب أي موقع في أي وقت تريده. وقال المسؤول التقني في المجموعة إنه لا يملك أدلة دامغة على ما حدث ليلة الانقلاب. وفي أي حال، وأياً كانت الأسباب، استمر التعتيم أقل من ساعتين وانتهى بمجرد ظهور أردوغان ولجوئه إلى الإنترنت، الأمر الذي أدى إلى تغير سرعة الإنترنت ليبدأ الاتكال بشكل كامل على وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح في يد الحكومة في وجه الدبابات المتنقلة في شوارع إسطنبول وأنقرة. وكانت دقائق قليلة من إرسالات البث المباشر عبر «فايسبوك لايف» و «بريسكوب» لصور الجموع البشرية تقف في وجه الدبابات العسكرية، كافية لإسقاط محاولة الانقلاب العسكري.
مشاركة :