يحفل أرشيف الغناء العربي في القرن العشرين بالثنائيات بين الحنجرة واللحن، بعضها أفضت إلى نقلات في تطوره مثل أسمهان ومحمد القصبجي، وبعضها تكريس للموجود، مثل فايزة أحمد ومحمد سلطان.. وخلال هذا الشهر الذي يشهد ذكرى ولادة السيدة وردة 22 يوليو، فإنه فرصة إلى قراءة ولادة ثقافية ما بينها وبين بليغ حمدي رفيقها الذي ظل بين نغمة يتطلع إليها في غيابها الأول بين 1962 -1972، وبين استعادة صدى ما أنجزه وإياها من بعد 1979 حتى وفاته 1993.. فقد التقيا أول مرة في لحن ظلمته مرة (1960) ثم حين كلف حمدي بوضع لحن لأغاني فيلم ألمظ وعبده الحمولي (1962)، ولم يكن جديداً، فقد جيء بأغنيات لألمظ روحي وروحك ويا نخلتين في العلالي، فأعطيت الأولى لفريد الأطرش والثانية لحمدي لإكمال مطلعيها بلحنين جديدين وقد كان.. غير أن وردة، وهي إحدى عاشقات ليلى مراد، أحبت لحن تخونوه لبليغ حمدي من فيلم الوسادة الخالية (1957) عبدالحليم حافظ، التي تنازلت عنه مراد طوعاً فأضاع حلم حمدي أن يسجل عملاً بصوت مراد.. وعلى أنها شدت له بلحن آخر أحبك فوق ما تتصور (1962) إلا أنها فارقته حتى عادا إلى بعضهما في لحن وطني من بعيد أدعوك (1972) ومن ثم فرطت الأعمال العديدة ومنها المسرحية التمر حنة (1975) والإذاعية أفواه وارانب (1976)، والتلفزيونية الوادي الكبير (1974) وأوراق الورد (1979) والسينمائية آه يا ليل يا زمن (1977) التي تشكل نصف تراث حمدي الغنائي في القرن العشرين. يمكن أن نقسم مرحلتين لحمدي في مسيرته، إذا عرفنا بأنه بدأ مغنياً منذ عام 1952 حتى أداء زميلته فايدة كامل لأحد ألحانه عام 1954 جعله معتمداً كما أنه التحق عضواً في لجنة مركز الفنون الشعبية عام 1957 من وزارة الإرشاد القومي، وهما: الأولى: اكتشاف التراث وبناء الهوية (1954 – 1972): تمكن حمدي من جعل التراث الثقافي غير المادي، مادته الغنائية، أي: الفنون الأدائية الساحلية والفلاحية والصعيدية، والعربية الموازية، المغربية والشامية والحجازية والحضرمية، مصدره النغمي الأساسي، إما إعادة التوليف مع عناصر نغمية جديدة مثال يا نخلتين في العلالي (1962)، وإما قابلة للاستعارة بجملة مستوحاة والله زمن (1969). بالإضافة إلى استقراء أساليب التلحين المكرسة من الملحنين، مثل: زكريا أحمد ومحمد القصبجي ومحمود الشريف، وتلمس الشخصية اللحنية في أغنيات هذه المرحلة تخونوه، ما تحبنيش بالشكل دا، حب إيه . وفيها وضع حداً لصراع الشرق – الغرب في ألحان محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي وفريد غصن، ولم يقف عند الهوية المصرية التي لم يتمكن من تجاوزها في الأغنيات السياسية لكمال الطويل مع عبدالحليم حافظ والاجتماعية لمحمد الموجي مع فايزة أحمد. الثانية: نجومية الملحن والأفق العربي (1972 -1993): خلق حمدي تيارات لحنية، بأسلوبه وشخصيته، ما جعل حناجر تدور في فلك كل تيار على حدة، مثل أم كلثوم وشهرزاد وسعاد محمد وشادية ومحمد رشدي ثم عفاف راضي وميادة الحناوي، وبعضها استوعب تياراته مثل عبدالحليم حافظ ووردة وسميرة سعيد، وتخرج الحناجر التي لم يكن التعامل معها إلا عابراً. وأفاد من خبرته في تكريس أسلوبه الذي ظل مطمعاً حاداً لأي صوت ومنتج، مثل سعدون جابر وعبدالله بالخير وعزيزة جلال ونوال غشام وكثر سواهم، كما أنه جعل بعض الأصوات حقل تجاربه التلحينية بالتعاون مع ثقافة الصوت وإمكانياته، ويمكن أن نلفت إلى نماذج من الوطني، مثل: موال النهار (1967) لعبدالحليم حافظ وحلوة بلادي (1973) لوردة، والعاطفي على التوالي: حاول تفتكرني (1973) واحضنوا الأيام (1976).. استجاب حمدي لمتطلبات عصره الحداثية من كسر الانتظام البنيوي النغمي الذي وضعه محمد القصبجي في لحنه الدرامي رق الحبيب (1940) ولم يلتزم به لاحقاً أي ملحن وإنما كانت مونولوجات طويلة، وأولف عناصر متنافرة في ألوانها التراثية والدرامية والطربية والشاعرية، وفكّ التدرج الصوتي للحنجرة، ومكنها من خلق وجودها ما يتخطى الارتجال ويندرج في تكثيف اللحظة الصوتية بين الأداء وتلوينها، وهذا جعل التوازي ممكناً بين الملحن والحنجرة في تجاربه مع عبدالحليم حافظ ووردة. في كل ملحن قادم يولد فيه عنصر من بليغ حمدي..
مشاركة :