«زبد الأيام» لبوريس فيّان: من أين تأتي تلك السوداوية؟

  • 7/27/2016
  • 00:00
  • 31
  • 0
  • 0
news-picture

يصعب تصنيف رواية «زبد الأيام» التي نشرها الكاتب والشاعر الفرنسي بوريس فيّان في العام 1947 لتقفز بمكانته وشهرته خطوة كبيرة الى الأمام. فهي رواية حب بالتأكيد، لكنها أيضاً رواية خيال علمي في جانب منها، وهي نصّ ساخر ونتاج سوريالي، وهي رواية اجتماعية لكنها أيضاً نص غريب وسوداوي، وربما «دراسة» في الأخلاق أيضاً. والمهم في هذا كله أن ما يستهوي الإنسان فيها سرعان ما يصبح وبالاً عليه، من المال الى الحب، ومن العلم الى الصداقة والعمل والتجوال وسط الطبيعة الخلابة وحياة القصور. وحتى لئن رأى كثير من القراء والنقاد دائماً أن «زبد الأيام» تدور بالنسبة الى أحداثها في بلد غريب وزمن غير محدد ومع شخصيات تتسم بالغرابة، فإن فيها إشارات واضحة الى مجريات الحياة الثقافية الفرنسية في تلك السنوات الصاخبة التي تلت الحرب العالمية الثانية. > الشخصية المحورية في الرواية هي كولين، الشاب الثري المقيم في دارة منيفة، حيث يخدمه بين آخرين طباخه الخاص المبدع نيكولا الذي يتفنن في تحضير الوجبات الساحرة الغريبة، فإذا أضفنا الى هذا، ذلك الجهاز الغريب الذي هو بيانو وبار آلي في الوقت نفسه - إذ يحضّر أغرب كوكتيلات الشراب وألذها بوضع قطع نقود في ثقب فيه، ثم يعزف أجمل الألحان -، يمكننا أن نفهم أحد أسرار شعبية الحفلات الصاخبة المرحة التي يقيمها كولين وتستهوي أصدقاءه. لكن كولين يبقى مع هذا حزيناً مهموماً. فهو حين يراقب صديقه وضيفه الدائم تشيك ناجحاً في حياته رغم فقره وناجحاً مع النساء على عكسه هو الباحث عن حب وسعادة يعجز عن العثور عليهما، يتساءل لمَ كان حظه هو تعيساً الى هذا الحد؟ ومن تعاسة حظه أنه حين يتقرب الى الحسناء إليسا واجداً لديها مبتغاه، تفضل هذه تشيك عليه بكل بساطة! سيظل كولين يبحث عن السر معبراً في كل لحظة عن توقه الى الحب. إنه يريد أن يُحبّ وأن يُحَبّ. يرى أن السعادة هنا. على أي حال لن يلبث صاحبنا أن يلتقي الحسناء كلوي التي ستبادله الحب وتغمره بالسعادة ولا سيما خلال رحلة شهر العسل، وبعد أن كان منح تشيك مبلغاً من المال على سبيل المساعدة. > كل شيء بات يبدو إذاً على ما يرام. بخاصة أن جولة شهر العسل كانت ناجحة، تجوّل العروسان وصحبهما خلالها في مناطق جنوبية ساحرة. لكن المشكلة أن كلوي عادت من الرحلة مصابة بمرض نادر راح ينهش إحدى رئتيها، ما اضطر كولين الى أن ينفق ثروة على أدوية لن تجد لها نفعاً. في الوقت نفسه كان تشيك قد أنفق المال الذي وهبه إياه كولين... على شراء مخطوطات باهظة الثمن لروايات الكاتب المعروف جان سول بارتر (إشارة لئيمة الى جان بول سارتر). وهنا إذ كان كولين قد أنفق بدوره أمواله، على شراء أدوية باهظة الثمن لكلوي آملاً بأن تتمكن من شفائها، انقلبت حياة المجموعة رأساً على عقب. وها هو كولين مضطر الآن الى العمل، ولا سيما موظفاً لدى السلطات مهمته إخبار الناس بالأخبار السيئة، انطلاقاً من لوائح تُسلم اليه يومياً. وذات يوم يجد اسمه في اللائحة. وكانت كلوي قد ماتت وإليسا قد مزقت مخطوطات تشيك وكتبه... > كل هذا يحدث في القسم الثاني من الكتاب، في شكل يدفع الى التساؤل عن الخلفية التي منها استقى فيّان كل هذه السوداوية، حتى وإن كان فيّان عاش تسعة وثلاثين عاماً فقط، ولم ينل ما يستحق من الشهرة خلال حياته بل بعد موته المبكر. أما روايته الكبرى والأساسية والتي كان يمكن لها أن تعود عليه بشهرة كبيرة، «سوف أبصق على قبوركم» فإنه وقعها باسم مستعار أول الأمر، ولم يُعرف أنه هو كاتبها إلا بعد نشرها بزمن طويل. ومع هذا، فإن فيّان يعتبر معلماً أساسياً من معالم الحياة الثقافية في فرنسا خلال تلك الفترة الذهبية التي امتدت، من نهاية الحرب العالمية الثانية الى أواخر الستينات، وذلك لأنه عبّر في كتاباته، ولكن أكثر من ذلك بحياته نفسها، عن ذلك التوق الى الحياة والخوف من المرض والموت، والانكباب الوجودي على النهل من منبع كل ما هو متوافر على طريقة «اعمل لدنياك كأنك راحل غداً». > بوريس فيّان هو بكل اختصار، وكما قد يصعب على «زبد الأيام» أن تكشف في قراءة أولية لها، صورة لباريس خلال تلك المرحلة الغامضة والصاخبة: مرحلة الشعر، والحياة الثقافية بتجلياتها وأوساخها، والحرب الجزائرية، وأقبية السان جرمان، واكتشاف موسيقى الجاز، وأول بذور النضال ضد العنصرية، والغناء والأدب كعنصر فاعل في يومية الحياة. هذا كله عاشه بوريس فيّان وتمثّله وجعله شعاراً لحياته، فكان شاعراً وروائياً وموسيقياً ومؤلفاً للأغاني وعازفاً وعربيداً وساخراً كبيراً. كان، بكل اختصار، رجلاً يركض ضد الموت. وذلك بكل بساطة لأن الموت كان يطارده في كل لحظة. كان الإحساس بمطاردة الموت شعوراً شخصياً لديه، لكنه كان شعور أجيال بأسرها، في فرنسا التي وجدت نفسها تخرج في ذلك الحين من أتون الحرب العالمية الثانية والهزيمة المهزلة التي أصابتها خلالها، الى حرب الهند الصينية الى الحرب الجزائرية. وفي الوقت نفسه، كان الإحساس بالموت كبيراً لدى فيّان بسبب إصابته المبكرة بمرض القلب الذي عاد وقضى عليه باكراً بعد ذلك. > ولد بوريس فيّان قرب باريس في 1920، ودرس الفلسفة ثم نال ديبلوماً في الهندسة في 1942. وهو بعد الحرب أخذ يرتاد أماكن تجمع الحلقات الوجودية في الحي اللاتيني ومنطقة سان جرمان، ثم راح يكتب الأغاني، بعد أن كان واحداً ممن اكتشفوا في موسيقى السود الأميركيين (الجاز على أنواعه) فعل احتفال بالحياة، وإبداعاً ثقافياً راقياً، فكان بهذا من اولئك الذين أحلوا موسيقى الجاز وسط حلقات المثقفين بديلة عن «الجافا» و «الفالس» وشتى أصناف الموسيقى الشعبية الفرنسية، في شكل جعل حركة انتشار الجاز في فرنسا، ترتبط حتى اليوم باسم بوريس فيّان. > في العام 1946 نشر فيّان روايته الأولى تحت اسم مستعار هو فرنون ساليفان (ولم يكن من الصدفة أن يكون الاسم الذي اختاره لنفسه يومذاك أميركياً). المهم أن روايته تلك أثارت عاصفة واعتبرت فضيحة، وذلك لأن «سوف أبصق على قبوركم» عرفت كيف تمزج بين العنف والجنس والتصدي للعنصرية، في بوتقة واحدة. غير أن تلك الرواية (التي حولت الى فيلم شهير بعد ذلك) كانت أول وآخر رواية يكتبها فيّان في هذا الإطار، اذ بعد ذلك اتسمت أعماله بطابع شاعري حافل بالمرح وبنوع غامض من الرومانسية، ومن أشهر تلك الأعمال، الى جانب «زبد الأيام»: «خريف بكين» (1947) «العشب الأحمر» (1950) و «نازع القلب من مكانه» (1953). هذا بالنسبة الى الروايات والنصوص النثرية، أما بالنسبة الى المجموعات الشعرية فقد أصدر العديد منها وأبرزها «النمل» (1949). > أما للمسرح، فكتب فيّان العديد من النصوص ومن أبرزها «بناة الإمبراطورية» (1959) و «إفطار الجنرالات» (نشرت بعد موته، في العام 1965) وكتب فيّان كذلك نص اوبرا للموسيقي داريوش ميلو بعنوان «فييستا» (العيد). ورغم تعدد كتاباته ونشاطاته ومواهبه، وتحوله الى أسطورة، فإن النص الأبرز بين نصوص فيّان يبقى «زبد الأيام»، الرواية التي اعتبرت - ولا تزال تعتبر - تعبيراً عن جيل بأسره، يمتزج فيها التهكم بالقلق، والخوف من الموت بالانفتاح على الحياة، وتصوّر عالم الحياة الثقافية الباريسية خلال تلك السنوات الزاهية. وفي تلك الرواية التي هي في الأصل حكاية حب بين كلوي وزوجها كولين، الذي يعيش المعاناة الشاقة ويهلك تماماً وهو يحاول إنقاذها من المرض الذي سوف يقضي عليها. غير أن فيّان عرف كيف يرسم، عبر حكاية الغرام والتضحية المفعمة بالرومانسية هذه، عالم حلم تتقاطعه مشاهد في غاية الطرافة، وينزرع بشخصيات مستقاة، بكاريكاتورية متعمدة، من واقع الحياة. لقد مات فيّان باكراً، ولم يشتهر إلا بعد موته. ومع هذا كان واحداً من أولئك المبدعين الذين، رغم مرورهم كالنيزك، يؤشّرون الى جيل بأسره، كما يؤشرون الى عوالم غنية تعكس غنى الحياة وتعقدها في زمننا هذا.

مشاركة :