محمد حماد وهو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْبِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً، (الفتح: 24). قبيل توقيع صلح الحديبية بين المسلمين ومشركي مكة في العام السادس للهجرة، كانت قريش قد بدأت تفكر جدياً في الصلح، فأرادت مجموعة من شباب قريش أن يقطعوا كل طريق للصلح، وعملوا على فرض القتال على المسلمين وعلى القرشيين، فتسللت هذه المجموعة وهم حوالي خمسين من المشركين، إلى معسكر المسلمين ليلاً، وكان محمد بن مسلمة رضي الله عنه على رأس مجموعة من المجاهدين في انتظارهم، فاعتقلهم، وساق الصيد الثمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أمكن الله منهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقهم تأكيداً على نيته في الصلح، ونزل في ذلك قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْعَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ، (الفتح: 24). محمد بن مسلمة بن سلمة هو رجل المهام الصعبة، وقائد سرايا العمليات الخاصة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المفتش العام في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من اعتزل الفتنة الكبرى، وكسر سيفه على صخرة، وبقي في بيته حتى وافته منيته، وخلف وراءه من الولد عشرة نفر، وست نسوة. ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة، وكان ممن سمي في الجاهلية محمداً، أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير، رضي الله عنه، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وشهد بدراً، وأحداً، وكان فيمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ حين ولى الناس، وشهد المشاهد كلها، عدا غزوة تبوك التي استخلفه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة. في مقدمة الصفوف لن تفقده عند كل مهمة صعبة، دائماً في مقدمة الصفوف المقاتلة في سبيل الله والدفاع عن المسلمين، فكان هو قائد حرس معسكر المسلمين على مقربة من مكة، ولما بيّت يهود بني النضير قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بين أيديهم، قالوا: فمن يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فأتى الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة، وبعث محمداً بن مسلمة يأمر بني النضير بالخروج من جواره، ، وقد أجّلهم عشرة أيام فمن وجده بعد ذلك ضرب عنقه، ثم حاصرهم زمناً حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، وخرج اليهود من المدينة إلى خيبر، وعاد المسلمون من حصار بني النضير أكثر قوة، ومنعة. بعد فشل الأحزاب، ورحيلهم عن حصار المدينة المنورة، رفع النبي صلى الله عليه وسلم شعار: (الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُوننَا)، فوجه السرايا الإسلامية لعقاب الذين شاركوا في حصار المسلمين، وكانت أولى هذه الحملات سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى منطقة تعرف بالقرطاء على بُعد أكثر من ثلاثمئة كم من المدينة المنورة، وكانت هذه السرية موجهة إلى بطن بني بكر بن كلاب، وكانت من قبائل نجد التي اشتركت في حصار المدينة في غزوة الأحزاب، وكانت السرية تضم ثلاثين فارساً، وقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب بني بكر، ففروا وتفرقوا في الصحراء، وقتل منهم عشرة، وساق ابن مسلمة وسريته عدداً كبيراً من الإبل والشاء بلغ مئة وخمسين من الإبل، وثلاثة آلاف من الشاء، وزادت هيبة المسلمين، وارتفعت معنوياتهم. ولم تكن هذه السرية أولى السرايا التي قادها محمد بن مسلمة، ولا كانت آخرها، فقد بعثه صلى الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سرية، وكان ابن مسلمة يفخر بذلك ويقول: يا بني سلوني عن مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لم أتخلف عنه في غزوة قط، إلا واحدة في تبوك خلّفني على المدينة، وسلوني عن سراياه صلى الله عليه وسلم فإنه ليس منها سرية تخفى علي، إما أن أكون فيها، أو أن أعلمها حين خرجت. محاسبة الولاة وفي خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعان بمحمد بن مسلمة في متابعة الولاة، ومحاسبتهم، والتأكد من الشكاوى التي تأتي ضدهم، فكان موقع محمد بن مسلمة كالمفتش العام في دولة الخلافة. ويُروى في ذلك كثير من الروايات منها أن عمر رضي الله عنه علم أن سعداً بن أبي وقاص وكان واليه على العراق، بنى قصراً له في الكوفة، وبلغ عمر أن سعداً قال (وقد سمع أصوات الناس من الأسواق): سكنوا عني الصويت (النداء)، وجعل على القصر باباً، فبعث محمداً بن مسلمة إلى الكوفة، يقول الراوي: وكان عمر إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما يريد بعثه، وكانت مهمته محددة حسب أوامر أمير المؤمنين أن يحرق باب القصر ثم يرجع، فلما قدم أخرج زنده، وأورى ناره، وابتاع حطباً بدرهم، وقيل لسعد إن رجلاً فعل كذا، وكذا، ولما وصفوه له عرفه وقال: ذاك محمد بن مسلمة، فخرج إليه، فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: انقطع الصويت، فحلف سعد بالله ما قال ذلك، فقال: نؤدي عنك الذي تقوله ونفعل ما أمرنا به، فأحرق الباب، وأقبل سعد يعرض على ابن مسلمة أن يزوده، فأبى ثم ركب راحلته يريد المدينة، فوصلها، ولم تستغرق رحلته منها إلى الكوفة ذهاباً وإياباً غير تسعة عشر يوماً وليلة، قدم بعدها على عمر فقال: لولا حسن الظن بك لرأينا أنك لم تؤد عنا، (من قصر المدة وسرعة الأداء) فقال محمد: بلى قد فعلت، وهو أرسل يقرأ السلام، ويعتذر، ويحلف بالله ما قاله، فصدقه عمر. ومن مهامه التي أرسله عمر إليها، محاسبة الولاة على ثرواتهم وأموالهم، ومن ذلك ما جرى مع عمرو بن العاص والي مصر رضي الله عنه، وكانت مهمة محمد بن مسلمة أن يقاسمه ماله، فأهدى إليه عمرو بن العاص هدية فردها، فغضب عمرو وقال: يا محمد لم رددت هديتي فقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمي من ذات السلاسل فقبل، فقال له محمد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل بالوحي ما شاء، ويمنع ما شاء، ولو كانت هدية الأخ لأخيه لقبلتها، ولكنها هدية إمام شر من خلفها، فقال عمرو: قبح الله يوماً صرت فيه لعمر بن الخطاب والياً، والله لقد رأيت العاص بن وائل (يقصد أباه) يلبس الديباج المزرر بالذهب، وإن الخطاب ليحمل الحطب بمكة على حماره، فقال له محمد بن مسلمة: أبوه وأبوك في النار، وعمر خير منك، ولولا اليوم الذي أصبحت تذم لأُلفيتَ مُعتقلاً عنزاً يسرك غُزرُها ويسوؤك بَكرُها، (والمقصود أنه لولا هذا اليوم الذي تذمه الآن لكنت في بيتك لا شغل لك غير الإمساك بعنزة تنتظر أن تدر عليك من لبنها يسرك أن يكون لبنها غزيراً ويسوؤك ذكرها الذي لا لبن له)، فقال عمرو: هي فلتة المُغضَب، وهي عندك أمانة، ثم أحضر ماله فقاسمه، حتى قسم نعليه. اعتزال الفتن عاش قوياً في الحق ثابتاً عند الملمات، شجاعاً لا يخشى في الحق لومة لائم، وقد سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف تراني يا محمد؟ فقال: أراك والله كما أحب، وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قوياً على جمع المال، عفيفاً عنه، عدلاً في قسمه، ولو ملت عدلناك كما يُعدل السهم في الثقاف، فقال عمر: هاه، فكررها محمد: لو ملت عدلناك كما يُعدل السهم في الثقاف، فقال عمر: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني. أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً وأوصاه قائلاً: (قاتل به المشركين ما قاتلوا، فإذا رأيت المسلمين قد أقبل بعضهم على بعض، فائت أحداً فاضربه به حتى تقطعه، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية)، وظل على وصية حبيبه صلى الله عليه وسلم فاعتزل الفتن، وأقام بالربذة حتى اقتحم عليه المنزل أحد الأشقياء فقتله، سنة ثلاث وأربعين هجرية، ودفن إلى جانب الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه بالربذة.
مشاركة :