«الغرفة المضيئة»..الصورة مدونة الزمن

  • 8/1/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: علاء الدين محمود في كتابه الغرفة المضيئة تأملات في الفوتوغرافيا، يأخذنا الفيلسوف الفرنسي رولان بارت في رحلة عبر الزمان والمكان، وربما يغيب أحدهما أو كلاهما، لكن تظل الصورة شاهدة على حدث وقع في زمان ما، ومكان ما، لنصبح في تمام المتعة البصرية، في لحظة تأمل مبدع لصور قديمة، وتزداد متعتنا عبر القراءة المبدعة لهذا العالم الغريب والجميل، عالم الصورة الفوتوغرافية الذي لا شك أنه عالم محرض للتأمل والتفسير والقراءة المبدعة، بارت يفعل ذلك في هذا المؤلف، وسيميولوجيا التحليل تجاه هذه الصور والمشاهد لا يرتبط عنده بتلك الصورة التي التقطتها عدسة محترفة، بل هي تلك المشاهد التي رصدتها كاميرا عادية، ولكن يتعرض بارت كذلك إلى تحليل صور التحقيقات الصحفية التي يعتبرها صوراً فوتوغرافية أحادية تحول الواقع بواسطة التفخيم إلى صورة أخرى متولدة منه ومشابهة له. معتبراً أنها صور خالية من الثنائية. في الكتاب يأخذنا بارت إلى تلك العوالم في رحلة جمالية مستعرضاً تأملاته وانطباعاته وتشريحه الفلسفي، ويخرج إلينا من عمق هذا الجمال بهذا النص المبدع، الذي يتحدث عن تجربته التأملية إذ يقول:(هو أنا الذي لا يتطابق أبداً مع صورتي، لأن الصورة هي التي تبدو ثقيلة ساكنة عنيدة ولهذا يدعمها المجتمع، وهو أنا الذي أبدو خفيفاً، منقسماً، مشتتاً، كعفريت العلبة، لا أبقى ساكنًا، بل مهتاجًا في إنائي، تقدم الصورة على مستوى تخيّلي هذه اللحظة شديدة الغموض، حيث للحق أقول لا أكون ذاتًا ولا موضوعاً، ولكن بالأحرى ذاتًا تشعر بأنها تصير موضوعًا، أعيش من ثم تجربة مصغرة للموت، الصورة الفوتوغرافية هي مثل المسرح البدائي، مثل لوحة حيّة، مثل مجازية الوجه الساكن المخضّب الذي نرى الموتى تحته، يلزم على الفوتوغرافية أن تكون صامتة توجد صورة صاخبة لا أحبها، هي ليست مسألة رصانة، ولكن مسألة موسيقى، لا يمكن الوصول إلى الذاتية المطلقة سوى في حالة ما، في محاولة جاهدة للصمت إغماض عينك هو جعل الصورة تنطق عن الصمت. وكدأب كثير من الفلاسفة المعاصرين ينظر بارت إلى الصورة الفوتوغرافية كما هي الكلمات، وكل شيء متورط في لعبة المعنى وهذا ما يتناوله مؤلف بارت فهو غوص في عالم الصورة الفوتوغرافية، وكشف للقيم الدلالية وإعادة للمعنى غير المرئي للصورة، وهو بذلك إعادة للمعنى غير المرئي للإنسان والتاريخ. الكتاب ترجمته للعربية هالة نمر، وراجعه أنور مغيث، في طبعته الأولى عن المشروع القومي للترجمة في مصر عام 2010، ويدخل الفيلسوف والناقد والكاتب الأدبي، والدلالي، والمنظر الاجتماعي، رولات بارت هذا الجنس الإبداعي التصوير الفوتوغرافي، متسلحاً بمعرفة واسعة في الكثير من الحقول الفكرية.رصد الأخيلة وراء اللقطة الفوتوغراغية، وراء الصورة مثل مصدر إلهام لبارت، فلم يكن غريباً أن يهدي بارت هذا العمل المميز ل خيال سارتر، الفيلسوف الكبير الذي تأثر به بارت، فقد كان ذا نزعة سارترية، وهي تتجلى بشكل كبير في مؤلفه درجة الصفر في الكتابة، والخيال عند سارتر يقدم عالماً بديلاً عن عالم الواقع فهو عالم الحرية، فالاهتمام بالخيال هو اهتمام بالإبداع، بل هو لحظة الابتداع الناتجة عن عملية التخيل، فاهتمام سارتر بحياة الخيال عند الإنسان، يعود إلى كون أن الخيال حين يباعد بين الإنسان وعالم الواقع، إنما يكشف عن عالم آخر تتمثل فيه الحرية بأكمل درجاتها، فوظيفة الخيال عند الإنسان تتلخص في أنه يقدم لنا عالماً آخر سيكون بديلا للعالم الواقعي، لذلك يرى سارتر في الخيال قدرة على نفي الواقع. هذا الكتاب هو نتاج اتخاذ بارت للموقف الاستاطيقي تجاه الحياة، الموقف الذي دفعه إلى حب الفوتوغرافيا، لقد قرر أن يحب الفوتوغرافيا أكثر من السينما، غير أن بارت يرى أن السينما تسهم في تدجين الفوتوغرافيا، إذ إن الصورة في السينما لا تتميز بذلك الاكتمال بينما يكرس الفوتوغرافيون أنفسهم للقبض على الراهن، على اللحظة الراهنة، ويعترف بارت بأنه لم يتمكن حينها من الفصل بين السينما والفوتوغرافيا، فما كانت تعنيه تلك الرغبة في الاقتراب من الفوتوغرافيا، هو أنه على الرغم من الشواهد التي تبلورها التكنولوجيا والممارسة التطبيقية لها ورغم انتشارها المعاصر الهائل، لم يكن واثقاً من أن الفوتوغرافيا موجودة وأن لديها عبقريتها الخاصة بها، ومن هنا بدأ في طرح تساؤلات عن ماهية هذا الفن والملامح التي تميز الصورة، التي تحمل كما يقول: -مرجعها معها- كما تطمح في المكانة التي تجعلها علامة، مما يسمح لها بالوصول إلى مكانة اللغة. الفوتوغرافيا عند بارت لم تتماس مع الفن من خلال الرسم، بل من خلال المسرح، وإذا كانت الصورة الفوتوغرافية تبدو لبارت أكثر قرباً من المسرح، فهي تبدو كذلك من خلال وسيط فريد هو الموت، ويحيلنا بارت لتك الصلة الأصلية بين المسرح وعبادة الموت، حيث كان الممثلون الأوائل ينفصلون عن الجماعة بتمثيلهم دور الموتى عبر تقليدهم للموتى، كانوا يتبدون مثل جسد حي وميت في الوقت نفسه، ويرى بارت في هذه العملية ذات العلاقة التي يجدها في الصورة، مهما كان سعينا لجعلها صورة حية شيئاً من الإنكار الأسطوري للانزعاج من الموت. لئن كانت الصورة الفوتوغرافية قد طرحت لدى بارت الكثير من التساؤلات، فقد بذل في تجربة قراءتها مصطلحات، مثل طابع الإدراك الكلي وتفرد اللحظة التي تقتنصها الصورة، فالصورة في الفوتوغرافيا يمكن أن تكون موضوعاً لثلاث ممارسات أو ثلاثة انفعالات، فهي تفعل، وهي تتحمل، وهي تتطلع، وكذلك فالمصور هو الفاعل والمشاهد، أما وكذلك يتناول المصطلحات البصرية المتعلقة بالفوتوغرافيا مثل الستوديوم والمختص بتأويل الصورة، والبونكتوم وهو مختص بالاستقبال والتأثير الشخصي للصورة، والبيوجرافيم وهو مختص بعلاقة الصورة الفوتوغرافية بالسيرة الذاتية، تجربة معرفية ثرية يخوضها بارت في علاقته مع الصورة الفوتوغرافية وفي تأملاته فيها، وهي التأملات التي تفجر عنده عشرات الأسئلة، ليتصدى لها بحس مبدع، وتشريح فيلسوف، الصور التي أمامه تصبح حياة إذ ينفخ فيها من خياله المبدع ما يجعلها تتحرك، وتحرك فيه متعة التأويل الخلاق المبدع، ونستشف ذلك من خلال سرده لتأملاته مع الصور التي أمامه، والتي ضمها الكتاب، لأنثى، كلب، بيت قديم، وكل ما تلتقطه الكاميرا وهو يطوف بالقرى والأماكن، هي المشاهد العادية. كما نستشفه من خلال تأمله لصورة والدته التي فارقت الحياة وكانت تمثل له الكثير، ولم يبق له منها غير تلك الصور القديمة التي يقبل عليها في متعة بصرية تخيلية استنطاقية إذ يقول: أذرعها ويداها لم أدركها أبداً سوى أجزاء، بما يعني أنني افتقدت وجودها، ومن ثم افتقدتها بأسرها. لم تكن هي، ولم تكن أيضاً شخصاً آخر، لقد تعرّفت اليها وسط آلاف النساء الأخريات، مع ذلك لم أجدها، تعرّفت عليّ معرفة مغايرة وليست جوهرية، تجبرني الفوتوغرافيا بذلك، على أن أقوم بجهد مؤلم متوجهاً إلى تقصي هويتها، أتخبط بين صور شِبْه حقيقية، وبالتالي مزيفة تمامًا، القول أمام بعض الصور بأنها تقريبًا هي! هو أكثر تمزيقًا لي من القول، أمام صور أخرى، ليست هي على الإطلاق، تقريباً، هذه، هي نظام للحب مروع، ولكنها أيضًا الوضع المُحبط للحلم، الذي بسببه أكره الأحلام. يضيف ولأنني غالباً ما أحلم بها - لا أحلم إلا بها-، لكنها لا تكون أبداً بالضبط أمي، أحيانا تتسم في الحلم، بشيء ما في غير محله، بشيء من المغالاة، على سبيل المثال، تبدو مرحة، أو وقحة - حيث لم يكن ذلك حالها على الإطلاق - أو حين أعرف أنها هي، ولكن لا أرى ملامحها، ولكن هل نحن نَرى في الأحلام، أو نعرف، أحلم عنها، ولا أحلم بها. هو نفس المجهود، أمام صورة، كما في الحُلم، نفس الجهد السيزيفي: الصعود، مشدوداً نحو الجوهر، الهبوط ثانية دون تأمله، والبدء من جديد، كان دائماً ما يوجد في صورة أمي تلك، مكان محفوظ ومصون، بريق عينيها. للحظة الأولى هو لمعان فيزيائي محض، أثر فوتوغرافي على لون بؤبؤ عينيها، ذلك الأخضر المائل للزرقة، ولكن هذا الضوء كان في حقيقة الأمر نوعاً من الوساطة التي قادتني لهوية جوهرية، لعبقرية الوجه المحبوب. ثم إنه، مهما كان عدم الإتقان، أظهرت كل صورة من هذه الصورة الشعور الحقيقي الذي عايشته في كل مرة، تركت نفسها لعدسة الكاميرا، كانت أمي تترك نفسها للصورة، خوفًا من أن ينقلب رفضها إلى موقف، لقد نجحت في هدوء في إخبار الوقوف أمام العدسة (تصرف لا يمكن تجنبه)، ولكن بدون المبالغة المسرحية للتواضع أو العبوس، لأنها كانت دائما قادرة على أن تستبدل بقيمة خلقية قيمة أخرى، قيمة اللباقة. لم تصارع صورتها كما أفعل مع صورتي. يضعنا بارت في هذا المؤلف أمام مشهد للعلاقة مع الصورة الفوتوغرافية يختلط فيه التداعي الحر والعفوي، بصرامة أدوات علم الدلالات، لتوليد المتعة من خلال هذا الخلط، هو تقرير للمشاهدة، للانطباع الأول ل اللحظة الأولى، فالشرط المبدئي للصورة هو الرؤية، هي الشرارة الأولى التي يتطور عقبها الانطباع الأول، ليتحول إلى علاقة ثم رؤية تأويلية فلسفية للمشهد، ليخلق كل ذلك علاقة معقدة مع الصورة الفوتوغرافية، فالصور التي يعرضها بارت في الكتاب سارداً علاقته معها، هي صور تحكي قصة علاقته هو بالفوتوغرافيا، لتأملاته حولها، لكن الرجل تجاوز تلك اللحظة الأولى من المشاهدة، اللحظة العفوية نحو قراءة متعمقة، منتجة تحليلاً مطولاً للمعاني الموجودة في الصورة الفوتوغرافية، انتقل معها بارت من تلك اللحظة الذاتية، وهو قد فعل ذلك منذ اللحظة التي قرر فيها أن يشركنا فيها معه كقراء للاطلاع على تجربته، المعاناة المتولدة عنها نتاج تلك التأملات.

مشاركة :