هذه حكاية، لا بل قل واقعة، جرت في منطقة أبعد ما تكون عن لندن، ولكنني أسميها ذكريات لندنية احتراما للسلسلة «ذكريات لندنية». المعروف عني شغفي بركوب الدراجات الهوائية، البايسكل، والطواف بها إلى المناطق النائية. كانت الكلية في عطلتها الربيعية. والمعروف عن ذلك الموسم غزارة الأمطار في إنجلترا. لم يثنني ذلك من تحدي الطبيعة. وبعد أن تعرفت بزميلة في الكلية لها مثل هذا المزاج، عقدنا العزم على التوغل في أرياف إنجلترا على الدراجات. لم تكن بيدي أي خريطة أو بوصلة واعتمدت كليًا على معرفة الزميلة بالمنطقة. بيد أن التفاوت في سرعة كل منا، ذكرًا وأنثى، أسفر عن افتراقي عنها. لم أعرف أين ذهبت. وكان الليل قد خيم على المنطقة وجاء بأذياله بمطر غزير زاد من محنتي. وجدت نفسي في إحدى غابات سومرست الكثيفة. ورحت أهيم في ممراتها الضيقة والمليئة بالطين والأوحال، أبحث عن أي أثر لبني الإنسان. ولكن الله رؤوف بالعباد. لاح لي بصيص نور من بعيد فاتجهت نحوه مشيًا على قدميّ، أجر بجانبي الدراجة بعد أن تعذر علي ركوبها في أوحال الغابة الكثيفة بالأشجار وأوراق الأشجار المتفسخة. بعد نحو نصف ساعة من المشي تحت المطر، أخذت أتبين معالم ذلك البصيص. كان بيتًا ريفيًا منعزلاً ومتواريًا بين الأشجار. قصدته فورًا وضربت على الباب بحثًا عن أي زاوية ألتجئ إليها. فتحت الباب امرأة. تكلمت إليها بلغتي التي كانت إنجليزية مكسرة. ولكن السيدة استطاعت أن تفهم وضعي الحرج، تلميذ عاق أضاع طريقه في الغابة. عادت من حيث أتت لتكلم زوجها. «بقى هيذه ويحد مخبول طيلع بهالمطر» تبينت فورًا لهجة امرأة يهودية بغدادية أصيلة! تشاورت مع زوجها في إسعافي لأقضي الليلة في مكان ما. عاد الرجل إلي ليتحرى الموضوع فكلمته فورًا بالعربية البغدادية الكرخية. كاد يغمى على الرجل! لم يصدق أذنيه. في هذه الزاوية من غابات سومرست وفي ليلة ممطرة شاب بغدادي أصيل مسافر على بايسكل. بيد أن الأغرب من ذلك أن أجد أنا في هذه الزاوية النائية من بريطانيا يهوديًا عراقيًا من أزقة الشورجة. فرح بي واقتادني إلى الحمام وجاءني ببيجاما نظيفة. ألقيت ثيابي المبللة في البانيو. غسلت ولبست وخرجت إلى الصالون حيث وجدت السيدة الفاضلة قد وضعت لي على الطاولة بعض الساندويتشات والشراب. «اشرب بقى ودفي معدتك». جلسنا وتحاورنا وتبادلنا ذكريات بغداد. وما كانت إلا دقائق حتى انطلق الرجل يغني بصوته الفظ الأبح شيئا من أغاني سليمة مراد، المطربة العراقية اليهودية الشهيرة: قلبك صخر جلمود ما حن عليّ انت بطرب وبكيف والبي بيّ
مشاركة :