في الأفكار المتداولة في ميادين النقاش العام، رزمة قيم جديدة لا تشبه تلك التي ما برح الغرب يبشّر بها منذ الحرب العالمية الثانية. العدو الأول هو «داعش»، و «داعش» فقط. وكل من يقاتل هذا «العدو الأول»، وأياً كانت خلفيته وممارساته وقناعاته وسوابقه، ينبغي دعمه والتحالف معه للقضاء نهائياً على التنظيم الإرهابي بحيث «يصبح تنقّل المواطن من بيته وإليه آمناً». هكذا يخبرنا فرنسوا فيون، رئيس وزراء فرنسا الأسبق والمرشح المحتمل للرئاسة المقبلة. ضمن ذلك المناخ الثقافي الجديد الذي تمليه ظروف الحرب الإرهابية ضد العالم، تتقدم أفكار اليمين المتطرّف بعد أن سقط احتكارها من جانب رموز ذلك اليمين وأحزابه، وتصبح مادة متداولة في شكل عادي داخل الأحزاب التقليدية، يسارية كانت أم يمينية. ينجح «داعش» في الكشف عن الوهن البنيوي لقيم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان لدى هذا الغرب، ويروج خطاباً يمجّد سلوك الاستبداد في العالم، لا سيما في عالمنا، لحماية أسلوب عيش الفرد في عالمه. في أوروبا كما في الولايات المتحدة، دعوات صريحة للوقوف إلى جانب النظام السوري وميليشيات الحشد الشعبي وقوات حزب الله والميليشيات التابعة لإيران من أجل محاربة داعش. وفي تبرير الأمر انتهازية خبيثة تدعو إلى استغلال «موقّت» لكل من وضعوا سابقاً على قوائم الإرهاب أو اعتبروا ديكتاتوريات كئيبة من أجل صبّ الجهود على هزيمة داعش. في المقابل، تراقب تلك القوى المحلية تحوّلات الغرب وشططه باعتبارها انقلاباً في نظرة العالم إليها ومباركة لسلوكياتها في دعم الاستبداد ورفد المذهبية وتبديد أي أحلام لبناء ديموقراطيات على النسق الذي أقيم غرباً. على هذا تصبح الاستراتيجية الروسية أساساً يجب البناء عليه. يمتلك الغرب الوقاحة في الإعلان صراحة أن لا نية أميركية، وبالتالي غربية، للذهاب مباشرة نحو حرب برية ميدانية ضد الإرهاب. أوباما لا يريد وستبقى العواصم معتكفة طالما أن أوباما لا يريد. وعليه، فإن الذين يقاتلون في الميادين دفاعاً عن نظام الأسد في دمشق ونظام الوليّ الفقيه في طهران ومصالحه في بغداد، يرتقون إلى مرتبة جنود يباركهم هذا الغرب حماية لأحيائه ومدنه. هذا تماماً ما يفسّر ذلك التحوّل في معركة حلب وما يبرر المناورات الخجولة التي بالكاد تتحدث عن مصير الأسد ومستقبل سورية، وبالكاد تقارب السلوك الإيراني في الميادين العربية من بيروت إلى صنعاء، مروراً بدمشق والمنامة والكويت إلخ... وبغضّ النظر عن حيثيات داعش في ضرب المدن الأوروبية، فإن نتائج تلك الجرائم تصبّ مباشرة في مصلحة دمشق وطهران، على ما يطرح أسئلة حول الحوافز الحقيقية لعمليات الإرهاب في باريس وبروكسل ونيس وسواها، ونجاحها في صناعة رأي عام محلي يبارك نزوع المجتمعات نحو التسليم برؤى تدعو إلى ضرب التطرّف بالتطرّف وهضم التوجّه لرعاية الديكتاتوريات الدموية بأبشع صورها اتقاء لشرور «الذئاب المنفردة» الشاردة نظرياً من معاقل داعش في الموصل والرقّة وأشباههما. يحصّن الغرب نفسه بجدار فكري لا يختلف عن ذلك الأسمنتي الذي تقيمه إسرائيل صوناً لأمنها. المعادلة بسيطة: أما وأننا لم نعد عابئين بتصدير الديموقراطية وحقوق الإنسان بصفتها قيماً إنسانية كونية تخصّ كل الحضارات، فإن الأولوية ستكون في الحماية الحصرية لعالمنا وعدم الاعتراض على شيوع الطغاة في عالمهم. بمعنى آخر، يستعد الغرب لإقامة ستار حديدي كذلك الذي قسّم العالم إلى شطرين في الخمسينات، بحيث يتقلص الحيّز «الحر» إلى الرقعة التي سبقت مباشرة سقوط الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، من دون أن يعني ذلك شمولها الدول الأوروبية التي تخلّصت من رعاية موسكو وهرعت باتجاه رعاية أوروبا والولايات المتحدة ومظلّتهما الأطلسية. ضمن تلك البيئة الجديدة، تروّج أسماء دونالد ترامب في الولايات المتحدة وبوريس جونسون ونايجل فاراج في بريطانيا ومارين لوبن في فرنسا إلخ... الكل يبشّر ببشار الأسد شريكاً منطقياً ويتفهمون سلوكه. في باريس هذه الأيام، يتعرض رئيس الوزراء مانويل فالس لحملة بعد أن كشف مدير مخابرات فرنسي سابق أن الأجهزة السورية عرضت تسليم باريس لائحة بأسماء الجهاديين الفرنسيين في سورية، ورفض فالس ذلك لرفضه تبادل المعلومات مع نظام الأسد الديكتاتوري. تنقلب المفاهيم وتسقط المسلمات. يشنّ الرأي العام حملة لا تمقت الطغاة ولا ترى بهم شراً. يحتاج وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى المرور بموسكو حتى تبدأ معركة حلب. فالحدث نتاج اتفاق لا خلاف، وما على الجوقة الغربية بعد ذلك إلا أن تطالب بمراعاة الجوانب الإنسانية أو التشكيك في مقاصد الممرات الإنسانية. تدعونا تحفّظات باريس ولندن وبرلين وواشنطن إلى تفحّص وجاهة الممرات لا وجاهة المعركة الكبرى في حلب. يبشرّنا رئيس وكالة المخابرات المركزية في واشنطن، بأن سورية لن تعود موحّدة. ليس في التبشير من صاحب أكبر مخزن معلومات في العالم استنتاج أو استشراف. هو قرار تعمل موسكو وواشنطن على تسويقه بغضّ النظر عن أدبيات السوريين، معارضة ونظاماً، الخالية من أي مرامٍ تقسيمية. الأمر يتطلب ربما التعجيل بإسدال الستار، والعودة إلى المربع الأول حيث فصل سورية المفيدة بقيادة الأسد عن تلك التي ستستوطنها الجماعات وفق استشراف جون رينان رأس «سي آي إيه» الأول. * صحافي وكاتب لبناني
مشاركة :