قبل الانقلاب الفاشل، عمدت الأجهزة إلى تكوين عشرات آلاف الملفات العائدة إلى معارضين مفترضين. وقانونية هذا العمل أمر مشكوك فيه، ولم يراقب أحد، أو هيئة، صفته القانونية. فالقضاة هم من أوائل الذين أصابهم التطهير. والذين سرحوا من الموظفين الذين يحظر عليهم مغادرة البلاد من غير مسوغ مهني، وينتابهم القلق الشديد على مصائرهم. وسبقت قرائن مبكرة عملية التطهير الجماهيري. ففي انتخابات حزيران (يونيو) 2015 التشريعية، خسر حزب العدالة والتنمية، وهو الأداة التي يستعملها رجب طيب أردوغان في إدارة البلاد منذ 2003، الغالبية المطلقة. وتعمد أردوغان إفضاء المفاوضات بين حزبه وبين الأحزاب الأخرى على تأليف الحكومة، إلى طريق مسدود يبرر الدعوة إلى انتخابات جديدة خطط لها. وفي أعقاب 5 أشهر، بينما كانت البلاد نهباً لعنف وتوتر شديدين، فاز حزب العدالة والتنمية مرة أخرى. ومنذ الانقلاب الفاشل، في 15 تموز (يوليو)، تعاظم النازع إلى احتدام المواجهة: فأعلن الرئيس حال الطوارئ لمدة 3 أشهر. وعلى خلاف الإجراء الفرنسي، يقضي الإجراء التركي بكف المجلس الدستوري في أثناء المدة التي يسري فيها الإعلان. وعليه، يملك أردوغان سلطات تكاد تكون مطلقة. وهو يحمل السياسة على الثأر والانتقام. وأشد معارضيه تطرفاً ينتهجون اليوم منطقه الثأري. ويصح هذا في بعض العسكريين: أي أن الخصم هو مرادف الخائن والعدو الداخلي الذي يجب شن الحرب عليه وقتاله. ولا بأس بسفك الدم في هذا السبيل. وعلى خلاف الانقلابات السابقة، في 1960 و1971 و1980، سمة هذه المحاولة البارزة هي عنفها المتمادي. والمجتمع التركي يوشك أن ينقسم انقساماً عميقاً. والذريعة إلى الاستقطاب قد تكون أي موضوع، مثل الأزمة مع روسيا أو مسألة اللاجئين السوريين أو القضية التركية. ولم يبق في خضم الأنواء التي تعصف بالنظام عامل ضبط أو موازنة. فالدولة تنتزع من هيكليتها الدستورية. ونقلت المشروعية من الهيئات إلى أردوغان الذي نصب منقذاً. والولاء المطلق والمفروض له يقلب الدولة رأساً على عقب، ويأخذها رهينة. وبعضهم يقارن هذه الحال بحال الصين في 1966-1967، أوائل الثورة الثقافية التي فرضها ماوتسي تونغ وسحق البيروقراطية بواسطتها. ويسعى أردوغان في إعادة عقوبة الإعدام، وهي ألغيت في 2004، في سياق المفاوضة مع الاتحاد الأوروبي. فهو لا يفهم لماذا تتولى الدولة إطعام المجرمين في السجون من مالها. ومحاولة الانقلاب عليه شخصياً هي أفظع جريمة، والعقوبة الوحيدة التي تستحقها هي الموت. ويحظى حزب العدالة والتنمية بهيمنة اجتماعية لا شك فيها. فالكتلة التي تؤيد هيمنته قوامها بورجوازية شديدة التدين من أصول بلدية وطرفية (مناطقية)، ترعرعت قبل عشرين سنة في تربة المناقصات العامة وأموالها الهائلة. وشطر من السكان الفقراء يسانده لأنه أقنعه بأن الفقر ليس مسألة سياسية ولا اجتماعية بل مسألة خيرية. وأوكل حزب أردوغان إلى الشبكات البلدية، وإلى الجمعيات القريبة منه، تولي جمع التبرعات والصدقات وتوزيعها على المحتاجين. ويدين الترك السنّة والمحافظون بالولاء لأردوغان وحزبه. فهو العلامة الوحيدة على الطريق في عالم خسر علاماته، وتتهدده الحروب في سورية، وتفجيرات «داعش» القاتلة، وحرب عصابات حزب العمال الكردستاني، بالدمار. وولاء أنصار حزب العدالة والتنمية لحمته الخوف من الاضطراب الاقتصادي والسياسي الذي اختبرته تركيا في الماضي. وثمرة هذا الخوف مجتمع متعاظم التناثر والتشظي. فالأكراد يقترعون في غالبيتهم لحزب الأكراد، والعلويون (نحو 20 في المئة من السكان) يقترعون لحزب الشعب الجمهوري (المعارض)، ويقترع الأتراك السنّة إما لحزب العدالة والتنمية، وهو الحزب الوحيد الذي يقرهم على صفتهم جماعة مسيطرة، وإما لحزب العمل القومي المتطرف. وقد يفاقم الاستقطاب هذه الانقسامات. ويعود هجس أردوغان بفتح الله غولن إلى تولي الأول رئاسة الحكومة في 2002، فحين تولى هذا المنصب كان خاوي الوفاض من الكوادر والمثقفين والإداريين المحترفين. وكان غولن أنشأ منذ بعض الوقت جماعة سماها «خدمة»، وحليفاً لأردوغان على نفوذ الجيش في المرتبة الأولى، وعلى تحفظه عن الإسلاميين. والمدارس الغولنية ابتدأت التدريس منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، وأعدت أجيالاً من الموظفين. وكانت هذه الأجيال جسر أردوغان إلى الاستيلاء على الدولة، ووسيلته إلى اضطلاعها بوظائفها بفاعلية لا تنكر، إلى 2011 إبان تقرب أردوغان من أوروبا. ولولا الغولنية لافتقرت الأردوغانية إلى دماغ أو رأس. ودخل أنصار غولن أفواجاً في وزارات الداخلية والعدلة والتربية. وكان دليل عملهم برنامجهم الخاص الذي يقيد هامش مناورة رئيس الحكومة. وبينما التزم غولن في مضمار السياسة الخارجية جانب الحذر، استعجل أردوغان تنصيب نفسه زعيماً على العالم الإسلامي. ووقعت القطيعة في كانون الأول (ديسمبر) 2013، حين وجه المحققون والمدعون القضائيون انتباههم إلى المقربين من أردوغان الوالغين في قضايا فساد. وصبت رابطة الإخوة السابقة الزيت على نار الخلاف وأججت الحريق. ولكن الجماعة لم تعد قوية بعد أن أغلقت الحكومة مدارسها وصحفها، وصرفت 15 ألفاً من موظفيها. وربما كان بعض الضباط المتورطين في محاولة الانقلاب قريبين من غولن، وهذا لم تربطه يوماً علاقة وثيقة بالجيش. فمعظم الضباط كماليون. وفي تركيا يعد الموظفون في الإدارات الدينية 130 ألفاً. ويتولون الدعوة «الشرعية» إلى طاعة الدولة. وكانت هذه وظيفتهم في العهد العثماني. ولكن دعوتهم التعبوية جديدة. وأردوغان لا يقصر مهمته على رئاسة الدولة، وهو على يقين من أن الرئيس القائد والأمة، واحد، ويهوى إحاطة الجماهير به، وطلاب المدارس الدينية الجدد هم أطر هذه الجماهير. وتذهب الحلقة القريبة من أردوغان إلى القول إن الحرب العالمية الأولى لم تكن حرباً أوروبية داخلية في المرتبة الأولى، بل كانت حرباً أوروبية على السلطنة العثمانية، ولم تبلغ خواتيمها بعد. وبناء على هذا الذهان العظامي، ليس ثمة فرق بين أعداء الداخل وأعداء الخارج. ولا ما يحول دون زج الولايات المتحدة وأوروبا في صف الأعداء، وإغراق أوروبا باللاجئين، والقطيعة في نهاية المطاف. * مدير بحوث في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية وصاحب «تاريخ تركيا»، عن «لكسبريس» الفرنسية، 27/7/2016، إعداد منال نحاس
مشاركة :