هذه أبواب البيوت الحديد في مخيم البقعة الفلسطيني مطلية بألوان فطرية صاخبة ورخيصة، لكنها تكسر رتابة اللون الأشيب لما يحيط بها من الجدران والطرقات. أما ألوان الأبواب فتصوغها العين الروائية الساحرة المسحورة من الطبيعة: أخضر بعنفوان الملوخية في أول قطفتها، أصفر خردلي، أحمر صدئ بتشبيك مشمشي لطاقتين صغيرتين أعلى الباب، أزرق سماوي، ثم يأتي النقش بالفستقي وتأتي الحواف بالعسلي المذهب! لتكتمل اللوحة بفجاجة تليق بالقحط الجمالي في المكان! وللكتابة إذاً أن تكون فناً تشكيلياً، كما للفن التشكيلي أن يكون كتابة، مما يتبدى في رواية حزامة حبايب «مخمل»، وهي تصوغ من القبح جمالاً ومن قحط الجمال ثراء لينهض بالنقيضين الفضاء الروائي: مخيم البقعة، حيث البيوت التي تعزز الشمس وهنها وتكلحها، وحيث المطر الذي يفتتح الرواية ليغرق المخيم ثمانية ايام، بينما خريطة فلسطين على بعض الجدران باللون الأحمر الدموي، وفي قلبها كلمة «تقاوم»، لكأنها تساهم في مضاعفة البؤس. منذ رواية غسان كنفاني «أم سعد» ( 1969) أخذ المخيم ينهض كفضاء روائي. وحسبي أن أشير جزافاً إلى مخيم عين السلطان ومخيم النويعمة في رواية رشاد أبو شاور «العشاق» (1977) ومخيم جبل الحسين في رواية لبانة بدر «بوصلة من أجل عباد الشمس» (1979) ومخيم عين الحلوة في رواية نعمة خالد «البدد» (1999) ومخيم صيدا المجاور لمخيم عين الحلوة في رواية سامية عيسى «حليب التين» (2010). وربما كانت ذروة ذلك في رواية إلياس خوري «باب الشمس» (2005) والتي كانت من فضائها مخيمات برج البراجنة وشاتيلا ومار إلياس وعين الحلوة. أما العلامة الفارقة في هذه المدونة الروائية الفلسطينية الكبرى المتعنونة بالمخيم، فهي وعي الذات الفلسطينية بهتك عوراتها جميعاً، وبلا رحمة، مما أغضب ممجدي الذات في السياسة والأدب. وعي الذات تتصدر رواية «مخمل» هذه المدوّنة، متخذةً من بناء الشخصية الروائية سبيلاً إلى وعي الذات بتعريتها، وبالتالي: تعرية العلاقات والأسرة والمجتمع و... والروح. فمن قاع المخيم تقدم الرواية أسرة شخصيتها المحورية حوّا: والدها موسى العامل في البناء، والذي لا حد لقسوته وفحشه. فمن ضربه الوحشي لزوجته رابعة ولحوّا التي تفتدي شقيقها عايد كلما عوقب على بلله الفراش، إلى اعتدائه الجنسي على بناته الثلاث. وليست رابعة أفضل من زوجها، فهي لم تحب أحداً من أسرتها، وحوّا لم تحبها لكنها لم تكرهها كما كرهت أباها، وهو ما شاركتها فيه أمها وشقيقتاها، فالكره وشم لهذه الأسرة المفككة، والتي تتوجها الجدة نايفة والدة موسى... وسيكون نظمي زوج حوّا بلواها التي ضاعفت بلوى والدها، كما سيكون ابنها قيس، وعايد الذي التحق بالمجاهد العائد من أفغانستان والذي قاتل مع عبدالله عزام: أبو عبادة، وقد طرد عايد لما طلعت في دربه البودرة – المخدرات – من أسرار عالم المجاهد. في هذا العالم لم تتبأر بلوى المخيم. فأبو عبادة عاد بالمال الوفير، وأقام مركزاً لتحفيظ القرآن، وتزوج من الأرملة التي تدير فرع الإناث في المركز، ثم تزوج من المطلقة الواعظة في المركز، وجمع إليهما زوجته المصرية، ثم تزوج من شابة ممن يرتدن المركز. ومع ظهوره في المخيم ظهرت اللحى الشعثاء المخضبة وغير المهذبة، والوجوه العابسة، وعصبتهم من باعة الخضار وسواهم، بينما أغدق الناس الإجلال على المجاهدين العائدين ممن تفاقم بهم رعب حوّا. لكن المخيم ليس فقط هذا القبح. فمن النقيض هي شخصية حوّا الصابرة المصابرة، والتي لم تنطفئ فيها وقدة الحياة، بل تجددت الوقدة بعد الطلاق وإن تكن تقدمت في أربعيناتها. ومن النقيض شخصية الست قمر التي علمت حوّا الخياطة، وبات الحديث عن إحداهما ينادي الأخرى، ويعيدنا إلى بداية القول في الألوان والطبيعة، وكذلك الرائحة. من دمشق قدمت الست قمر بعدما ذاع صيتها في الخياطة، واعتدى عليها ضابط في الأمن السياسي، ففرت إلى إربد، ثم إلى عمان. وإليها في صويلح كانت حوّا تمضي من المخيم، حيث اكتشفت عالم الأقمشة، وجوهر هذا العالم: المخمل. أحبت الست قمر الألوان الغامقة للمخمل، بتدرجاتها من النزع الأخير للغروب حتى آخر الليل. وتكره الست قمر المخمل السادة والمطبّع والمعرق والمقصب والمرمل والمجروش والمنقوش. وإلى ذلك تضيف حوّا المخمل الموشى بالشيفون والمنكّه بالساتان والمطعّم بالخرز والمطرز بالبرق والترتر. فغاية حوّا هي المخمل الخالص الذي يجسد روح المخمل بلا أية إضافة تفسد ملمسه أو نكهته. ورائحة المخمل عند حوّا هي رائحة الدفء والسخونة الهاجعة والمدى والترف المستحق والانفة والتمنع والتمني والتشهي، رائحة نضج الحب ونضج العمر واللحم النظيف المعمر بعرق الرغبات والاشتياقات. وقد كانت الست قمر تختبر حوّا في معرفة القماش من رائحته. ويسعدها أن تخطئ كي تطوق أنفها رائحة البخور أول اشتعاله في المخمل، ورائحة هواء أيار (مايو) متنقلاً بين بتلات الزنابق والجوري والياسمين في الحرير والساتان والشيفون، ورائحة الترف المعتق الشائخ أحياناً في الأقمشة المقصبة المكشكشة والمطرزة، ورائحة أوراق الأشجار المتقصفة في القطن والكتان، ورائحة الحشائش المغسولة بالماء في الجيرسيه، ورائحة البلاستيك المصنّع حديثاً في النايلون والبوليستر. لكن حوّا تفوقت عندما شبهت رائحة قماش جاءت به زبونة، برائحة المجاري الفائضة في الزقاق المؤدي إلى بيتها في المخيم، بخاصة في فترات الظهيرة اللاهبة، والشمس تضرب مجرى النهير الأسود الراكد. ولحوّا خبرتها في هذا النقيض لكل ما تقدم في مجد الرائحة، وهو ما تجسده «جمالية» القبح في الرواية، كما فيما ملأ حوّا يوم زواجها الاول من نظمي الذي يعمل في ملحمة العجوري في سوق المخيم. وقد تفجرت رائحة زفارة متقادمة من بدن العريس الرطب الدبق، مختلطة برائحة الطلاء الحديث لجدران البيت المشبعة بالبرودة، وبرائحة كدرة متسللة من لا مكان، وقد اختمر فيها العتق والعفونة والاهتراء. شخصيات معطوبة أتى العطب على شخصيات أسرة حوّا. جميعاً، ابتداءً بالجدة التي تشبهها الحفيدة بالغولة، كما أتى العطب على أغلب شخصيات الرواية الأخرى. ومن نقيض هذا العطب، عدا عن شخصيتي حوّا والست قمر، شخصية الفدائي غسان، مهندس الكهرباء الذي ألجأته ما عرف بحرب أيلول (سبتمبر) الأسود عام 1970 إلى بيت الست قمر وإذا كانت الحرب قد جعلت لنباح الكلاب آخر الليل سره، وهو ينهش عشرات الجثث المتفسخة للفدائيين في الطرقات، فقد أنتش الحب بين غسان والست قمر خلال أيام اللجوء السبعة. لكأن الحب هو نقيض العطب، وهذا ما يتأكد أيضاً مع شخصية الشاب مراد الذي يميل بحوّا قبل زواجها، ومع شخصية منير الذي يميل بها بعد طلاقها، وعلى شفا عرسهما يبلوه مرض السكري بالغنغرينا، وأخيراً يختم الرواية حضور قيس بن حوّا الذي أشبه أباه، وشقيقها عايد، إلى بيت حوّا، وتحقيق قيس مع أمه حول علاقتها بمنير، ثم رميه لها بالرصاص غسلاً للعار!! يبدأ ثراء شخصية حوّا منذ ظهرت في الثالثة عشرة وقد ثقل صدرها بثدييها البركانيين، ويبدوان كما لو أنهما من طبقتين من اللحم اللدن، واللذين يذكران بشخصية نجلا في رواية منهل السارج «على صدري» ( 2007) والتي تعاني من عقدة ضخامة صدرها، بينما تفيض شخصية حوّا بالتلقائية والعطاء والتضحية والتوق والشجاعة. وقد ضاعفت لغة الرواية بعامة من ثراء هذه الشخصية وسواها، سواء باستخدام العامية أو توفير الهجنة والرطانة بمقتضى الموقف أو الحالة أو الحدث. ومثل ذلك هو الإيقاع المتواتر بأغنيات فيروز التي عشش صوتها في لحم حوّا. سوى ان اللغة قد شكت من وطأة الساردة في مطلع الرواية بخاصة، حيث احتشدت المجازات التقليدية. «مخمل» إضافة مميزة لإنجاز خزامة حبايب الإبداعي، وللرواية الفلسطينية بخاصة، والعربية بعامة.
مشاركة :