أصبح البحث عن علاجٍ لاستئصال فيروس نقص المناعة البشري من مخابئه والقضاء عليه أكثر إثارة للاهتمام. بعدما أعطى جسم بشري مضاد الأمل بحماية الناس من عدوى فيروس نقص المناعة البشري، ها هو يثبت قدرته على منع تجدد العدوى فترة تصل إلى 19 أسبوعاً لدى المصابين الذين أوقفوا أخذ الأدوية المضادة للفيروسات الرجعية. وفق رسالة نُشرت في مجلة “الطبيعة”، ساهمت خلطات مؤلفة من جسم مضاد اسمه 3BNC117 في منع تجدد فيروس نقص المناعة البشري لفترة تفوق الشهر الواحد لدى 13 مصاباً بالفيروس بعدما أوقفوا أخذ خليط أدويتهم المضادة للفيروسات الرجعية. حين يوقف المصابون بفيروس نقص المناعة البشري أخذ تلك الأدوية، يتجدد الفيروس في العادة بمستويات خطيرة خلال 18 يوماً. لكن في الأبحاث الجديدة، كتب العلماء أن المشاركين الثلاثة عشر قمعوا الحمل الفيروسي في أجسامهم وأبقوه بمستويات متدنية جداً بعد خمسة أسابيع على تلقي آخر علاج على الأقل، ما يعني تأخير تجدّد الفيروس لمدّة تساوي ضعف الفترة الاعتيادية. لاحظ ستة مشاركين من أصل 13 أنهم نجحوا في قمع الحمل الفيروسي وإبقائه بمستويات متدنية جداً طوال تسعة أسابيع على الأقل بعد تلقي آخر علاج، أي أكثر من المدة الاعتيادية بثلاث مرات. سُجّلت هذه النتيجة الجديدة في تجربة عيادية مصمّمة لتقييم سلامة علاجٍ تجريبي يهدف إلى تهيئة جهاز المناعة لمحاربة عدوى فيروس نقص المناعة البشري. أوقف المشاركون في التجربة الأدوية المضادة للفيروسات الرجعية وخضعوا لمراقبة مشددة ثم استأنفوا أخذ الأدوية فور تجدّد الفيروس. لم يختبر أيٌّ من المرضى متلازمة الفيروسات الرجعية الحادة، أي تجدّد الفيروس الذي يُصَعّب استعادة السيطرة على فيروس نقص المناعة البشري بعد وقف الدواء وزيادة عدائيته. وأشار التسلسل الجيني للفيروسات الرجعية المتجددة لدى ثمانية مشاركين إلى أنّ خلطات الأجسام المضادة لم تطرد في معظم الحالات السلالات المختلفة أو الأكثر مقاومة لفيروس نقص المناعة البشري من مخابئها. اعتبر المشرفون على التقرير الجديد أن العلاج بالجسم المضاد “يكبح على ما يبدو نمو المورثات الفيروسية انطلاقاً من مخزونها الكامن”. علاج تجريبي يُشكّل العلاج التجريبي جزءاً من جهود واسعة ترمي إلى إيجاد طرق جديدة للسيطرة على فيروس نقص المناعة البشري وربما القضاء عليه نهائياً. لا تكون مضادات الفيروسات الرجعية مكلفة بل إنها فاعلة جداً، عند خلطها مع التركيبات المناسبة، لقمع تجدّد فيروس نقص المناعة البشري. لكن يتجنّب جزء من الفيروسات تلك الأدوية دوماً عبر الاختباء في “مخازن” خلوية لدى الشخص المصاب. عند وقف الدواء المضاد للفيروسات الرجعية لفترة من الزمن، تستغل تلك الخلايا الفرصة لإنتاج كمية كبيرة من الفيروسات التي تأويها. نتيجةً لذلك، تتجدد العدوى لدى المريض وتزداد قوة وتصبح أحياناً مقاوِمة للأدوية المضادة للفيروسات الرجعية أكثر مما كانت عليه قبل النجاح في السيطرة عليها. قد يكون استعمال أجسام مضادة لمكافحة فيروس نقص المناعة البشري جزءاً من استراتيجية “الطرد والقتل” بحسب قول المشرف على الدراسة، ميشال نوسنزويغ، ما يعني طرد الفيروس من مخبئه ثم القضاء عليه. يقول نوسنزويغ، طبيب وباحث في “معهد هاورد هيوز الطبي” في جامعة “روكفلر”، إن الخطوة الأولى تقضي بطرد الفيروس من مخابئه في الخلايا (إنها ردة فعل طبيعية على وقف العلاج المضاد للفيروسات الرجعية). ثم يمكن أن يتدخّل الجسم المضاد، أو خليط من الأجسام المضادة، لقتله فيحدد الخلايا المصمّمة لتصنيع فيروس نقص المناعة البشري ويستهدفها كي يدمّرها جهاز المناعة. كانت المقاربات العلاجية المناعية فاعلة جداً في استهداف بعض أشكال السرطان و، بدأت تُستعمَل بوتيرة مكثفة كطريقة للتحكم بفيروس نقص المناعة البشري وحماية غير المصابين بالعدوى، وصولاً إلى الشفاء من الفيروس نهائياً في أحد الأيام. يُعتبر الجسم المضاد وحيد النسيلة، 3BNC117، الذي شكّل محور الرسالة المنشورة في مجلة “الطبيعة” واحداً من ثلاثة علاجات بالأجسام المضادة لفيروس نقص المناعة البشري، ومن المتوقع أن يحقق نتائج واعدة على مستوى منع تجدّد الفيروس خلال هذه السنة. اعتبر الدكتور أنطوني فوسي، مدير “المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدِية”، أن الجهود المذكورة في مجلة “الطبيعة” تشير إلى حصول “دراسة ممتازة في مجال مثير جداً”. قال فوسي إن تلك الجهود تهدف إلى التأكد من احتمال تقديم بديل مناسب عن نظام الحبوب المتعددة للمصابين بفيروس نقص المناعة البشري. بعد قمع العدوى بأدوية مضادة للفيروسات الرجعية، قد يتلقى المرضى خلطات متقطّعة تتألف من جسم مضاد واحد أو أكثر لمنع ظهور الفيروس وتجدّده. قد لا يكون خليط الأجسام المضادة أكثر تناسباً وفاعلية من مضادات الفيروسات الرجعية لكبح فيروس نقص المناعة البشري فحسب، بل إنه قد يقدّم علاجاً أكثر أماناً للمرضى الذين يواجهون آثاراً جانبية خطيرة بسبب مضادات الفيروسات الرجعية. خلطات علاجية يستعمل العلاج الذي خضع للاختبار في هذه التجربة جسماً مضاداً مستنسخاً تبيّن أنه يبطل مفعول ما يفوق الثمانين في المئة من سلالات فيروس نقص المناعة البشري. استُخلِص الجسم المضاد في الأصل من “مريض مرجعي يحمل الفيروس” (مريض مصاب بفيروس نقص المناعة البشري ويكون جهاز مناعته قد حال دون تجدد الفيروس وأبقاه بمستويات متدنية جداً من دون أخذ أدوية مضادة للفيروسات الرجعية). قال نوسنزويغ إن الجسم المضاد الأصلي (يظهر طبيعياً لدى المصاب بفيروس نقص المناعة البشري) يسعى إلى الحفاظ على سلامته وذكر أن المشاركين في التجربة الراهنة يحصلون على أربع خلطات علاجية على مر ثمانية أسابيع من دون إبداء أي ردود سلبية بارزة. ذكر المشرفون على الرسالة الواردة في مجلة “الطبيعة” أن مجموعة واحدة مؤلفة من ستة مشاركين تلقّت خلطتين من الجسم المضاد تفصل بينهما ثلاثة أسابيع. في الوقت نفسه، تلقّت مجموعة ثانية مؤلفة من سبعة أشخاص أربع خلطات من الجسم المضاد يفصل بينها أسبوعان. طوال شهر، حافظ جميع المشاركين في المجموعة التي تلقّت الخلطتين على حمل فيروسي شبه معدوم. وبين الأسبوع الخامس والتاسع بعد أخذ آخر خلطة، تجدد الحمل الفيروسي لدى هؤلاء المشاركين كلهم. في المجموعة الثانية، تجدد الحمل الفيروسي بين الأسبوع الثالث والتاسع عشر بعد تلقي الخلطة العلاجية الرابعة. لكن بقي الحمل الفيروسي لدى أربعة أشخاص من أصل سبعة مقموعاً لعشرة أسابيع على الأقل. هل يمكن أن يشفي هذا العلاج من فيروس نقص المناعة البشري؟ أجاب نوسنزويغ: “إنها توقعات مبالغ فيها”. لن يتطلّب طرد فيروس نقص المناعة البشري بالكامل خلطات بسيطة من الأجسام المضادة بل تستلزم هذه العملية هندسة المزيد من الأجسام المضادة لتهيئة جهاز المناعة وتوجيهه للقضاء على مخازن فيروس نقص المناعة البشري. تحدّث نوسنزويغ عن هدف آخر يمكن بلوغه على المدى القريب ويتمثّل باستعمال علاج مشابه بالأجسام المضادة لحماية غير المصابين من فيروس نقص المناعة البشري. من خلال إجراء الاختبارات على الرئيسيات، اكتشف فريق نوسنزويغ أن حقن الجسم المضاد3BNC117 يحمي من فيروس نقص المناعة البشري طوال 23 أسبوعاً. إذا أردنا استعمال الأجسام المضادة لضمان “مناعة ثابتة” وطويلة الأمد ضد العدوى أو لمنع تجدد فيروس نقص المناعة البشري لفترات طويلة، لا بد من هندستها كي تدوم لفترة أطول داخل جسم الإنسان. سبق واكتشف فريق نوسنزويغ طفرات عدة يمكن أن تطيل حياة الأجسام المضادة ويأمل الباحثون إجراء دراسات إضافية لاختبار مدى سلامتها وفاعليتها. قال نوسنزويغ الذي أجرى بحثه بتمويلٍ من “مؤسسة بيل وميليندا غيتس”: “أحلم بأن يشبه العلاج لقاح الإنفلونزا، بمعنى أن نعطيه مرة في السنة”. لكن إذا كان يهدف إلى حماية الشابات في إفريقيا (مجموعة سكانية معرّضة لأعلى مخاطر فيروس نقص المناعة البشري)، يجب أن يدوم اللقاح المصنوع من أجسام مضادة لثلاثة أشهر على الأقل. بهذه الطريقة، يمكن إعطاؤه مع حِقَن منع الحمل طويلة المفعول بعدما زادت شيوعاً بين الشابات هناك.
مشاركة :