لا شك أن بعض القراءات والتحليلات التي حاولت فهم العنف الاجتماعي من بوابة غياب الفعل السياسي، او انحدار الوضع الاقتصادي أصابت في نظرتها لهذه الظاهرة من جانب ، وأخطأت ايضا في جانب آخر ، لكن ما يعنينا هنا هو الاشارة الى ان مجتمعنا ليس عنيفا بطبعه ، وأن الاستطلاعات التي تقدم لنا صورة المواطن خائفا من انتقاد حكوماته مرّة وعازفا عن المشاركة في الحياة السياسية والعامة مرّة اخرى ، انما تضيف الى الطبيعة الهادئة للشخصية الاردنية بعدا آخر ، ما زال مسكوت عنه للاسف ، وهو القدرة على التحمل والكبت ، التحمل هذا مرتبط بالصبر الذي فرضته الجغرافيا الصحراوية والازمات المتكررة التي نواجهها ، والكبت بسبب غياب القنوات المشروعة للتعبير والتنفيس ، في مقابل شيوع حالة من التعبئة المستمرة التي نمارسها ، سواء في الصالونات او الاعلام ، وسواء من اطراف معارضة او رسمية ، لتحشيد طاقات الناس وشحنهم: مرّة ضدّ الغلاء ، ومرّة ضد التجار ومرّة ضد الحكومة ومؤسساتها او المعارضة او من يمثلهما ، وهو شحن متواصل نتعرض له باستمرار ، ومن دون تخطيط مسبق ، وفي غياب وجود اي ابواب لتنفيسه ، او حلول لاستيعابه ، او اشاعة مناخات مضادة لامتصاصه. ثمة اسباب كثيرة ومفهومة يمكن ان نستعين بها لمعرفة ظاهرة العنف هذه، بعضها يتعلق بالأحوال الاقتصادية ، وبعضها يتقاطع مع التحولات الاجتماعية والقيمية ، واخرى ترتبط بالتعليم والتربية وما اصابهما من (رضوض) وتراجعات ، لكن من المؤكد ان الاحاطة بكل هذه الاسباب لا تكفي لاطلاق ما يلزم من احكام على العنف ، ناهيك عن تعميمها ، بمعنى انه لا يوجد للعنف (منطق) يمكن ان نستند اليه ، لا على صعيد التشخيص حيث تبدو لكل حالة خصوصيتها وظروفها ، ولا على صعيد المعالجة حيث من الصعب ان نشير الى (صيدلية) ما لصرف ما نحتاجه من ادوية دون ان نفترض امكانية (عدم الشفاء) او - حتى - امكانية حدوث آثار جانبية قد تكون (أسوأ) من المرض الذي نريد معالجته اصلا. عدم وجود (منطق) للعنف لا يعفينا من مسؤولية المزيد من البحث عن أسبابه ، او التغلغل في داخل مجتمعنا لاكتشاف (بؤره) وفك (شيفرته) وتفحص تربته وتعهدها بما يلزم من عناية ورعاية: كي لا تخرج مزيداً من الاشواك ، تلك بالطبع مهمة الباحثين والمختصين في مجالات علوم الاجتماع والنفس والتربية ، ومهمة الدولة بمؤسساتها وأجهزتها ونخبها ايضاً ، لكن انجاز هذه المهمة يحتاج الى (ارادة) شجاعة تضع اصبعها على الجرح تماماً دون مجاملة او خوف ، والجرح المقصود هنا هو (النظام العام) الذي يشكل منطقة (النفوذ) والحركة لاي مجتمع ، وبقدر ما كان سليماً ومحصناً ، بقدر ما زادت ثقتنا بصحة مجتمعنا وعافيته.. أما حين يطرأ عليه أي خلل فان بمقدورنا ان نتوقع ما هو أسوأ مما نراه اليوم يثير دهشتنا وحيرتنا وتساؤلاتنا ايضاً. مع كل قصة (عنف) - صغيرة او كبيرة - كنت اسمع دائما من يقول لا يوجد سبب حقيقي وجوهري يدفع هذا الى قتل ذاك ، او يبرر استنفار هؤلاء ضد اولئك ، بل ان وراء (اكبر) الجرائم التي يتسبب بها العنف (اسباباً تافهة) - مع الاعتذار لاستخدام الكلمة - في اغلب الاحيان ، فلماذا - اذن - يجنح بعضنا الى استخدامه ، وكيف يمكن ان تقتنع بان ثمة اسباباً معتبرة قد تدفعنا اليه؟ وما دام انه لا يمكن ان نختزل مثل هذه الاسباب في جوانب اقتصادية او اجتماعية.. الخ ، حتى وان كانت خيوطها وظلالها موجودة فعلا ، فكيف يمكننا ان نفهم ما يحدث؟ الاجابة ، بالطبع سهلة ، فهي كما قلت متعلقة بالخلل الذي اصاب (النظام العام) في مجتمعنا ، والنظام العام مثله مثل (المناعة) التي تحتاج اليها اجسادنا ، مع اننا لا نلمسها ولا نراها ولكنها المسؤولة - اولا واخيراً - عما يصيبنا من امراض ، اذا تراجعت عجزت اجسامنا عن مواجهة ما يعترضها من فيروسات وجرائم واذا تعهدناها بالعناية حفظتنا من كل مكروه. النظام العام لأي مجتمع هو حصيلة كل ما يتعلق بالمجتمع من قيم وقوانين واقتصاد وعلوم وتعليم وثقافة ومناخات ومشاعر.. الخ ، وأي خلل يطرأ على دائرة من هذه الدوائر المترابطة والمتفاعلة يترتب عليه خلل آخر ، وهكذا على شكل متتاليات حسابية.. ولو اردت ان اضرب مثلا هنا لقلت بان الخلل الذي قد يطرأ على قيمة (العدالة) سينسحب فوراً على ما يحدث من عنف في مجتمعنا.. كما ان أي خلل يصيب (أذواق) الناس يترتب عليه ايضا عنف من شكل آخر رغم اننا لا نلمسه ولا نضعه في حساباتنا (البحثية). اصلاح النظام العام يحتاج الى اصلاح شامل لمنظومة القيم في المجتمع ، واصلاح للمناخات العامة التي يفترض أن توفر لهذه القيم ما تحتاجه من قنوات للحركة وفضاءات للتنفس ، وربما كنا وقعنا في خطأ تربوي حين كنا نعيد - وما نزال - بأن اصلاح المجتمع يبدأ باصلاح الفرد.. وهذا غير صحيح اذ ان اصلاح النظام العام (المجتمع بقيمه ومناخاته وادواته) مقدم على اصلاح الفرد ، وسابق عليه. الدستور
مشاركة :