عندما يلتقي «القيصر» فلاديمير بوتين بـ «السلطان» رجب طيب أردوغان الأسبوع المقبل في موسكو في أول زيارة خارجية له بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، سيختال الرئيس الروسي كالطاووس منتصراً أمام الديك التركي الذي ينتف ريشه بنفسه ثأراً. كلاهما خائف، ضمناً، على سلطته وسلطويته القاطعة وكل منهما يخشى ذلك «المستنقع» الذي يتربص له: أردوغان في التصفيات الانتقامية داخل تركيا وبوتين في مغامراته السورية. حلب ستكون حاضرة حيثما يجتمع بوتين وأردوغان، فمعركتها مفصلية ومستقبلها سيكون مرهوناً – جزئياً – بالصفقة بين العدوّين اللذين تحوّلا إلى صديقي الحاجة الموقتة. إنما مفاعيل معركة حلب الأخرى أيضاً مهمة تشمل إيران وميليشياتها، والنظام في دمشق وأدوات إخماده المعارضة، والعواصم الخليجية وخياراتها بعد استدارة أردوغان نحو روسيا وعلى ضوء استمرار التلكؤ الأميركي في مد المعارضة السورية بالمعونات الضرورية لبقائها – وإلاّ زوالها بعد معركة حلب. فما هي ماهية معركة حلب لكل من اللاعبين فيها، لا سيما أن هذه المدينة العريقة تُعَّد من أهم المدن السنّية وأكبرها؟ إسقاط المدينة واحتلالها ليسا أمرين سهلين، بل قد يكونان الورطة التي توقع بروسيا كما بإيران. ربما الهدف هو تحويل المكاسب الميدانية إلى أوراق تفاوضية، ولعل تحقيق تلك المكاسب العسكرية بات أسهل نتيجة تنازلات أردوغان المرتقبة أمام مطالب بوتين السورية. إلا أن هناك الآن توتراً في العلاقة الأميركية – الروسية ناتجاً من تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأميركية وإفراطها في القفز على ظهر وزير الخارجية الأميركي جون كيري وتفاهماته المبهمة مع نظيره سيرغي لافروف حول سورية. ثم إن واشنطن تراقب الاستفادة الروسية من أردوغان الجديد ما بعد المحاولة الانقلابية، وترى في ذلك خسارة ورقة كانت في يدها في المعادلة مع روسيا: ورقة تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي كان لواشنطن نفوذ فيها استخدمته في المحادثات الأميركية – الروسية في شأن سورية. اليوم، اختلفت المعايير والتحالفات، لكن بعض الاستراتيجيات لم يتغير، وحلب في صميمها. بتاريخ 19 شباط (فبراير) الماضي في هذه الزاوية تحت عنوان «موسكو للعرب: إيران أول حلفائنا»، نقل المقال عن مصادر روسية رفيعة المستوى إصرار موسكو على مركزية الفوز في معركة حلب مهما كان الثمن وإصرارها على حسم المعركة لمصلحتها ولمصلحة النظام في دمشق: «لا توقف عن الغارات ولا تردد في أية إجراءات عسكرية برية بالشراكة مع النظام وحلفائه من ميليشيات، إلى حين تأمين الفوز بحلب وقطع الطريق على التواصل مع تركيا. هذه الاستراتيجية عسكرية لا تراجع عنها تحت أي ظرف كان»، وموسكو ترى أن «إعادة سيطرة النظام السوري على حلب ترفع معنوياته وتمكنه من خوض بقية المعركة الروسية ضد التنظيمات الإسلامية التي تصنفها إرهابية». إذاً كان واضحاً منذ مطلع السنة أن حلب محطة حيوية في الاستراتيجية الروسية ولن تتوقف عن قصفها لا من أجل «عملية فيينا» السياسية التي ولّدتها روسيا، ولا خوفاً من ردود الفعل الأوروبية المعنية بتدفّق اللاجئين إليها أو الأميركية التي بدأت تشتم أخيراً رائحة المناورة الروسية. هناك من يقول – ويصرّ على قوله – إن إيران هي المحرك الأساس وراء معركة حلب، وليس روسيا، وأن طهران هي التي أقنعت موسكو أخيراً بخوض معركة حلب المصيرية للغايات الإيرانية الاستراتيجية. الجديد هو عنصر الاستدارة التركية المهمة وتأثيرها في سورية بعامة ومعركة حلب خصوصاً. هناك كلام عن محور ثلاثي جديد نتيجة الاستدارة التي بدأت مع اعتذار رجب طيب أردوغان إلى فلاديمير بوتين قبل المحاولة الانقلابية وستتوّج بالزيارة لموسكو. فإلى جانب هذه الزيارة المهمة، اجتمع نائب وزير خارجية تركيا مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف هذا الأسبوع، في ما يبدو أنه بذور محور تركي – روسي – إيراني يتم إعداده على ضوء التحوّلات اللافتة في السياسة التركية ما بعد المحاولة الانقلابية. فوضع رجب طيب أردوغان غيّر المعادلة في سورية ذلك أنه سيضحي بسورية لضمان سيطرته على تركيا وهو جاهز للثأر من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية عبر البوابة الروسية. فثأره وانتقامه عارمان على الصعيد الداخلي كما على صعيد العلاقات مع أوروبا وأميركا. وهو يعتقد أنه يمتلك أدوات الثأر ولن يسقط في مستنقع الانتقام. بكلام آخر، إن أردوغان جاهز لتقديم خدماته الانتقامية إلى فلاديمير بوتين، ومعظمها أدوات سورية، منها: أولاً، قطع طرق الإمدادات إلى المعارضة السورية التي طالما رفضت أنقرة اعتبارها إرهابية، إلا أنها مضطرة اليوم لإعادة النظر بما يلبي المطالب الروسية. ثانياً، الدخول كشريك ميداني في المحور الروسي – الإيراني في معركة حلب ليتحوّل المحور من ثنائي إلى ثلاثي. ثالثاً، التفاهم على بشار الأسد بدلاً من اشتراط تنحيه كما كان الموقف التركي سابقاً. رابعاً، استخدام ورقة اللاجئين لإغراق أوروبا بالمشكلات الداخلية، لا سيما إذا تم فتح أبواب تركيا على أوروبا بلا تدقيق كامل بمن هو لاجئ مسكين ومَن هو الإرهابي المختبئ في ثياب المسكنة. خامساً، التصعيد ضد الولايات المتحدة واحتمال وقف التعاون مع التحالف الذي تقوده ضد «داعش» في سورية والعراق. وهناك أكثر من أداة لن يتردد أردوغان في استخدامها لضمان بقائه في السلطة. فهو على رغم تعاليه على الدستور وإهانة جيش الدولة وتحقيره حملة التصفيات والاعتقالات المذهلة، فإن الرجل قلق، وقلق جداً. إنه خائف، وخائف جداً. إنه يواجه الآن الانقلاب الحقيقي الذي يصنعه بنفسه ضد نفسه. وقد لا يدوم الرجل في السلطة حتى لسنة إذا استمر على هذا النمط – بل قد يكون فات الأوان على إصلاح نفسه من الثأر وإنقاذ مصيره من الانتقام. إنما، من الآن وحتى ذلك الموعد، على جميع المعنيين والمتأثرين بالإجراءات والتداعيات المترتبة على استدارة أردوغان، أن يدققوا بوقعها على استراتيجياتهم الثنائية والإقليمية بالذات في العراق وسورية خصوصاً، والدول الخليجية في الطليعة. فإذا تم توطيد محور تركي - روسي – إيراني في سورية، فإن للأمر أهمية بالغة تتطلب التفكير الجدي وإعادة النظر. بغض النظر إن اعتقد البعض أن مصير بشار الأسد ورقة تفاوضية عند الروس، أو أن مصير رجب طيب أردوغان هش وغير دائم ولم يعد مهتماً بطموحاته الشرق أوسطية، أو أن إيران وميليشياتها لن تتعافى من معركة حلب حتى لو انتصرت عسكرياً، إن ما يحدث في سورية عبر بوابة حلب مفترق طريق مصيري لسورية ولجميع الأطراف المتورطة في معركة حلب. فكلفة هذه المعركة عالية جداً للجيش الروسي الذي يخوض للمرة الأولى ضد كتلة عربية سنّية كبرى حرباً مكشوفة، فيقاتلها في مدينتها ويقصفها في عقر دارها. مثل هذا الاستثمار مكلف جداً لا سيما إذا أثبتت معركة حرب أنها في عداد المعارك المعهودة على المدن الكبرى واستحالة كسبها في نهاية المطاف. إيران أيضاً ستدفع ثمن معركة حلب إذا ارتسمت في أذهان العرب كجيش إيراني شيعي دخل مدينة عربية سنّية كبرى وسط مذابح ودماء مستعيناً بميليشياته للتغطية على تدخله المباشر. فكلفة ذلك كبيرة بغض النظر إن استحال الانتصار القاطع أو وقع التورط في مستنقع معارك المدن الكبيرة. بالطبع، إن وزن روسيا أهم من وزن إيران في معركة حلب، إنما ما هو الهدف الروسي منها وما هو الهدف الإيراني من ورائها؟ طهران تسعى وراء الحسم العسكري القاطع تنفيذاً لاستراتيجيتها التوسعية التي تربط بينها والعراق وسورية ولبنان. ماذا تريد روسيا من معركة حلب: الحسم العسكري تثبيتاً للنظام ومحورها مع إيران؟ أو تسجيل الفوز العسكري المحدود كورقة تفاوضية لفرض تصوّرها للحل السياسي في سورية؟ ثم هل أصبح في وسع روسيا فرض الحصار الاستراتيجي بالسلاح على ضوء التحوّلات الجذرية في تركيا أردوغان؟ وماذا سيكون تأثير ذلك في العلاقات الأميركية – الروسية؟ هذه التساؤلات كلها أساسية لفهم ما هو آتٍ إلى سورية بالذات عبر متاهات معركة حلب أو ورطة حلب. زيارة رجب طيب أردوغان لعدوه السابق فلاديمير بوتين ستجيب بالطبع عن بعض هذه التساؤلات المصيرية. إنما من واجب القيادات الخليجية أن تتوقف جدّياً أمام التطورات الآتية من تركيا لتدرس خياراتها الواقعية كي لا تقع، سهواً، شريك الأمر الواقع لمحاور تحاك على حسابها أو تغيب، عمداً، عن مسؤولية مصيرية لحلب وسورية.
مشاركة :