قبل نحو أربعين عاماً من الآن، وتحديداً في الثلاثين من تشرين الأول (أكتوبر) 1938، سادت الولايات المتحدة الأميركية، ولا سيما مناطق الساحل الشرقي فيها حال من الرعب ندر أن عرفتها أميركا. وكان السبب تمثيلية إذاعية. ولكن ليس أية تمثيلية... بل اقتباس لرواية إتش. دجي. ويلز «حرب العوالم» من إخراج شاب عشريني لم يكن أحد سمع به من قبل، لكن العالم كله سيسمع به بدءاً من تلك الأمسية وستقدم شركة إي. ك. راديو من فورها على توقيع عقد معه لإخراج ثلاثة أفلام. وسيكون واحد منها «المواطن كين» الذي سيجعل من الشاب، أورسون ويلز، واحداً من أعظم سينمائيي العالم، حتى وإن كان الفشل التجاري للفيلم سيحول دون متابعة تنفيذ العقد. ما يهمنا هنا هو حكاية تلك الأمسية الإذاعية التي تعتقد المخرجة التلفزيونية الأميركية كاتلين أوكونور، أنها قادرة على تفسير تسبّبها المذهل في كل ذلك الرعب الذي اجتاح الأميركيين، وذلك في ثنايا فيلم عنوانه «حرب العوالم وفق أورسون ويلز» ستبثه قناة «آرتي» الفرنسية/الألمانية بعد يومين على شاشتها، ما يعيد التمثيلية وحكايتها المدهشة الى الواجهة من جديد. حيث تقول المخرجة في فيلمها أن ظروف العام 1938 والحوادث العالمية المتلاحقة وسرعة نقلها على الراديو فورياً أحياناً، وتوقّع الناس لاندلاع الحرب بين لحظة وأخرى، وكون المذياع في ذلك الحين وسيلة الإعلام التي يتابعها 80 في المئة من الأميركيين، تفسر جميعاً الرعب التي سنتحدث عنه في السطور التالية من خلال استعادتنا الحكاية برمتها. > في أصل ذلك العمل إذاً، كل تلك المشاهد المرعبة معطوفة على ان الاشارات والتوريات التي تضمــــنتها رواية «حرب العوالم» التي أتت بالغة الجدية في أسلوبهـــا بقلم كاتب انساني النزعة اشتراكي الهوى (كان هـ. ج. ويلز اشتراكياً على الطريقة الغابية)، أراد من روايته هذه ان تكون عمل خرافة - علمية، ولكن ايضاً: نصاً بيئوياً ورؤية فلسفية لمكانة الإنسان في الكون، ناهيك عن كونها عملاً أخلاقياً لا يعود فيه الخير والشر يتصارعان من حول مبدأ «الحرام» ارتباطاً بقيم ميتافيزيقية، بل من حول مبدأ «العيب» ارتباطاً بالانسانية وأخلاقياتها وهمومها. والحال ان هذه القراءة لـ «حرب العوالم» تكاد تنطبق ايضاً على معظم كتابات ويلز، الذي كان يستخدم أدب المغامرات الشعبي لترويج افكار، اوصلها هنا، في رواية «حرب العوالم» الى ذروة لا تزال حتى اليوم تثير دهشة ملايين القراء يقرأونها مترجمة الى عشرات اللغات، ثم يشاهدونها في أفلام تطلع في كل حقبة وآخرها الفيلم الذي حققه ستيفن سبيلبرغ قبل سنوات. > صحيح ان عشرات الملايين يعرفون القصة ويحفظونها عن ظهر قلب. وصحيح ان القصة نفسها سبق ان حُولت غير مرة الى فيلم سينمائي، غير انها من الأعمال التي يبقى لها دائماً طرافتها ويمكن على الدوام اعادة قراءتها من جديد، قراءة فنية وأيضاً قراءة سياسية واجتماعية. وفي بعض الاحيان قد يكون في الامكان قراءتها سوسيولوجياً وتبعاً لأسلوب السيكولوجيا الجماعية. واذ نلفت الى هذه النقطة الأخيرة نعود بالطبع الى أورسون ويلز. وليس لأن ويلز عمد بدوره الى تحويل «حرب العوالم» فيلماً سينمائياً، فهو لم يفعل ذلك بالطبع، بل لأنه اشتغل على الرواية بطريقة اخرى حين حولها الى ذلك البرنامج الإذاعي الذي أرعب أميركا كلها، اذ بدأ البرنامج بخبر بدا وكأنه حقيقي يقول: «إننا نقطع برامجنا هنا كي نبث خبراً سريعاً وردنا الآن!». يومها استغرق الأمر دقائق، وأحياناً اياماً، قبل ان يدرك جمهور المستمعين الأميركيين الخدعة ويتوقفون عن الرجفان، رافعين قبعاتهم أمام ذلك «الحاوي المشعوذ» الكبير، الذي سيصبح لاحقاً أحد كبار سينمائييهم. > اذاً، من اورسون ويلز الى ستيفن سبيلبرغ مروراً بعشرات غيرهم، عرفت رواية «حرب العوالم» كيف تعيش حياتها، وعرفت كيف تغذي فن السينما، مباشرة او في شكل غير مباشر، بأفلام تجتذب الجمور العريض. فما هي هذه الرواية؟... ومن هو مؤلفها؟ > مؤلف الرواية هـ. ج. ويلز. هو، في عرف معظم القراء، ومنذ اكثر من قرن من الزمان، سيد أدب الخيال العلمي، في العالم، لا ينازعه على ذلك الموقع سوى الفرنسي جول فيرن. واذا كان القرن العشرون قد عرف ازدهاراً كبيراً لهذا الادب، فمن المؤكد ان هذا الازدهار كله - والذي طاول فن السينما كذلك ثم فن التلفزة - يدين بصورة مطلقة الى ويلز كما الى فيرن. اما رواية «حرب العوالم» فإنها الأشهر بين روايات ويلز، الى جانب «آلة الزمن»، وبضعة من اعمال اخرى لا تقل عنهما أهمية، لكنها لم تكن الوحيدة التي التي اقتبستها فنون متعددة ومنها فن الشاشة الكبيرة، اذ نعرف من بين أعماله الأخرى التي أُفلمت: «جزيرة الدكتور مورو» (مرتين 1932 و1977)، و «الرجل غير المرئي» (نقلت مرات عدة اشهرها 1933) و «صانع المعجزات»، و «حياة المستقبل» و «كيبس» و»تاريخ السيدة بولي»... الخ. > تروي لنا قصة «حرب العوالم» وفق الاقتباسات السينمائية حكاية عالم الفلك الشاب كلايتون فروستر، الذي نبدأ معه وهو يمضي إجازته في بلدة صغيرة في ولاية كاليفورنيا تدعى ليندا روزا. وذات ليلة يحدث ان يسقط نيزك صغير بالقرب من البلدة. غير ان النيزك ليس نيزكاً، إذ انه سرعان ما ينشق لكي يخرج من داخله صحن طائر ينطلق مندفعاً زارعاً الموت والخراب في طريقه، بواسطة شعاع موت ينبعث منه. وعلى الفور تتحول بلدة ليندا روزا الى مجرد أكوام من الحجارة، بينما تظهر في السماء، وبسرعة مدهشة ألوف الصحون الطائرة التي تنضم الى الصحن الأول. وعلى هذا النحو ندرك ان أهل المريخ بدأوا غزوهم كوكب الارض. واذا كان كثر قضوا بفعل الهجوم، لا سيما في ليندا روزا، فإن عالم الفلك فروستر يتمكن من الهرب، مع الحسناء سيلفيا فان بورن، اذ يستقلان طائرة صغيرة تأخذهما الى نيويورك... غير أن الطائرة تضطر الى الهبوط في منطقة نائية ومهجورة من «روك ماونتينز» في الوسط الأميركي. واذ يلجأ فورستر وسيلفيا الى بيت جبلي مهجور هناك، يشن المريخيون عليهما هجوماً، من طريق واحد منهم يتبدى الأكثر عنفاً. غير ان فورستر يتمكن من دفع المهاجم المريخي الى التراجع، قبل ان يتمكن من متابعة الرحلة حتى يصل والفتاة الى نيويورك... وهناك وسط الرعب العام واختلاط السياسي بالعسكري، وتقلبات الأمزجة، يُعقد اجتماع عام يشارك فيه عدد كبير من علماء يتخذون قراراً بأن الأمر بات في حاجة الى استخدام السلاح النووي ضد المهاجمين. وبالفعل يستخدم هذا السلاح... ليكتشف العلماء امام ذهولهم انه لا يحدث أي تأثير في مقاتلي المريخ. وتكون النتيجة ان ينجو هؤلاء فيما تغرق المدينة في الحرائق والنيران. واذ يلتقي فروستر بسيلفيا بعد فراق، يلتجئ معها الى كنيسة حيث يقرران انتظار الموت يأتيهما معاً، لكي يتخلصا من رعب المجهول الذي تعيشه البشرية كلها الآن. > لكن المعجزة كان لا بد من أن تحدث... وأن تحدث في اللحظة نفسها التي قرر فيها البطلان ان يستسلما ليأسهما. كان من الطبيعي للمعجزة ان تحدث طالما ان هذين البطلين لجآ الى الكنيسة. وهكذا، اذ بدت الصحون الطائرة المريخية قادرة على الصمود في وجه الأسلحة التدميرية التي اخترعتها البشرية بما فيها «أسلحة الدمار الشامل» النووية، ستبدأ الصحون بالتساقط صحناً بعد الآخر وفي شكل مباغت سيكون فيه انقاذ عجائبي لكوكب الأرض... فما هي الحكاية؟ الحكاية، ببساطة، هي ان اهل المريخ الذين ظهروا أقوياء في وجه السلاح المخترع، بدوا شديدي الضعف والهشاشة امام عامل لا دخل للإنسان فيه: الميكروب. ذلك ان كوكب المريخ الخالي من الميكروبات - او على الأقل من الأنواع الأرضية من هذه الميكروبات - فشل في ان يؤمن لسكانه ومقاتليه أي حماية مسبقة. وهكذا، ما إن بدأ المهاجمون المريخيون يحتكون بفضاء الأرض مباشرة، حتى بدأوا يتساقطون فاقدين كل مناعة. ما مكّن الأرض، اخيراً، من الانتصار عليهم مبيدة من تبيده منهم، دافعة الباقين الى الفرار. ومتيحة في طريقها لخدعة ذلك الإذاعي الشاب العبقري أن تنطلي على مئات الألوف من الأميركيين مثيرة لديهم رعباً تحول الى ذكرى مضحكة/مبكية مع الوقت وها هو فيلم كاتلين أوكونيل يفسره بعد عقود.
مشاركة :