تجربة عرض «اشتباك» في القاهرة تقلب الموازين

  • 8/12/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

«بعد ثورة ٣٠ حزيران (يونيو) قامت جماعة الإخوان باشتباكات دامية لمنع الانتقال السلمي للسلطة»، تلك هي الجملة التمهيدية التي تسبق المشهد الافتتاحي من فيلم «اشتباك» إذ يُعرض اليوم في دور العرض المصرية. وهي جملة تختلف تماماً عن تلك الكلمات التي سبقت عرض نسخة الفيلم التي اُفتتح بها قسم «نظرة ما» في مهرجان كان السينمائي الأخير. كلمات معدودة لم يقتصر وجودها على كشف التضارب والتناقض في أقوال الأطراف المختلفة، بدءاً من المنتج والمخرج مروراً بوزير الثقافة وصولاً إلى النقاد، لكنها أيضاً كانت النواة التي أطلق منها محمد دياب حملته للترويج لفيلمه والتي تم إشعالها على مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والمجلات والتي بذل فيها جهداً مستميتاً لفك الحصار المضروب من حول «اشتباك»، وصولاً إلى التواصل مع جهات أجنبية وشخصيات عالمية لمساندة الفيلم مثل «توم هانكس» الذي أرسل إليه رسالة شكر وتضامن ومديح بالفيلم ثم أتبعها بدعوة للمشاهدين على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» مفادها: «إذا كان لديك أي فرصة لمشاهدة فيلم «اشتباك» فعليك أن تفعل. الفيلم سوف يحطم قلبك، ولكنه سيُضيء كثيراً من الأشياء».   بعيداً من المبالغات بعيداً من المبالغة الكبيرة في اعتبار «اشتباك» بين «أهم عشرة أفلام عُرضت في المهرجان الكاني»، وكذلك المبالغة نوعاً ما في رسالة توم هانكس. وبعيداً من تساؤلات من نوعية كيف ومتى شاهد هانكس الفيلم؟ فعلى ما يبدو أن المخرج الشاب محمد دياب استفاد من دراسته للسينما في أميركا وأصبحت لديه علاقات جيدة بالعالم الخارجي. فقد امتدحه من قبل الكاتب الشهير باولو كويلهو وأشاد في تدوينة له على «تويتر» بفيلمه الروائي الأول عن التحرش والمعنون بـ «678»، وهي ميزة تُحسب لدياب وتساعده على الإفلات بأعماله المغايرة للسينما التجارية السائدة، وفرضها على سوق التوزيع. بالعودة إلى الجملة التي بدأنا بها المقال، يدرك المتتبع جيداً للشأن المصري وحالة الاحتقان التي مر بها المجتمع طوال فترة وجود الجماعة المحظورة في السلطة، والفترة التي أعقبتها، يُدرك جيداً أن الجملة السابقة - محل النزاع - تنتفي عنها الموضوعية وتمت صياغتها بانحياز واختزال في شكل يجافي الحقيقة، أو بتعبير أكثر دقة تذكر فقط نصف الحقيقة. هنا، ومنذ بداية إطلاق الفيلم اتهم المخرج جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، بفرض العبارة على الفيلم، لكن المنتج محمد حفظي نفى الأمر في تصريحاته الصحافية، مؤكداً أن «الرقابة لم تفرض العبارة، وإنما تم وضعها بالتوافق معها». لكن حفظي لم يحدد مَنْ مِنْ صناع الفيلم كان شريكاً في هذا التوافق؟ هل كان وحده الطرف المنوط به ذلك؟ أم أن المنتج المشارك الداعية الإسلامي معز مسعود والمخرج محمد دياب كانا شريكان معه؟ المثير للدهشة أن وزير الثقافة المصري حلمي النمنم الذي لم يكن قد شاهد الفيلم حين تمت استضافته للحديث عنه في حوار تلفزيوني - مسجل وموجود على موقع يوتيوب - ادعى أنه: «طالب بحذف تلك الجملة، لكن صُناع العمل هم الذين أصروا على بقائها”.   زوبعة! تصريح الوزير النمنم يجعلنا نتساءل كيف لوزير الثقافة أن يوافق على أن يُدلي بتصريحات تدخل في ملابسات تُحيط بعمل فني من دون أن يُشاهده؟! خصوصاً أن الفيلم أثيرت من حوله زوبعة منذ عروضه الأولى في المهرجان الكاني وبعد ظهور الداعية الإسلامي معز مسعود على السجادة الحمراء والإعلان عن شراكته في إنتاج الفيلم، ما أوحى للمتربصين بأن الفيلم ضد ثورة 30 تموز؟ ثم أين الحقيقة من تصريحات هذا الثلاثي؟ الغريب في الأمر أن بعض النقاد اعتبروا وجود الجملة السابقة «غير مؤثر وأن الضجة من حولها ضجيج بلا طحن». صحيح أن وجود الجُملة غير مؤثر في شكله المباشر – أثناء التلقي- خصوصاً أن النسخة التي شاهدتها كاتبة هذه السطور كانت كلماتها مكتوبة بخط يصعب قراءته إلى جانب صغر حجمه، لكن هذا لا ينفي أن فرض الرقابة لمثل تلك العبارات يُشكل خطراً على الإبداع، وأن الاستسلام والصمت عليها يعني مزيداً من فرض القيود التي تخنق المبدع وتضع له سقفاً لا يتجاوزه، وإن كان هذا ليس بأسلوب جديد فما أكثر الأفلام التي أصرت الرقابة على وضع عبارات في مقدمتها وكان أشدها غرابة ما حدث مع الشريط الوثائقي «يهود مصر» - أثناء حكم مرسي - فقد كُتبت كلمات على الشاشة الكبيرة مُوقّعة من جهاز الرقابة تقول: «الشخصيات التي في الفيلم هي من وحي خيال المؤلف والمخرج»، ثم أعقبها مباشرة لوحة أخرى تحمل توقيع صناع العمل وتقول: «الرأي السابق يعبر عن وجهة نظر وزارة الثقافة وجهاز الرقابة ولا يعبر بأي حال من الأحوال عن رأي فريق الفيلم”. أما في «اشتباك» فعلى رغم اعتراف المنتج محمد حفظي - «الراعي الرسمي للسينما المستقلة» في مصر - في تصريحاته بأن «الجملة تمت صياغتها في شكل منحاز، وكان يمكن صياغتها في شكل آخر»، فإنه اعتبر أن «الأهم بالنسبة إليه هو طرح الفيلم من دون حذف”. لكن حفظي لم يوضح ماذا يقصد بطرح الفيلم؟ وهل يقتصر الطرح على مجرد القبول بعرضه في عدد محدود من القاعات والاستسلام للموزع بسرعة رفعه؟ أم أنه أسهم مع المخرج في حملته لفك الحصار المفروض عليه بسبب شبهة وشائعة تضامنه مع الإخوان وانحيازه ضد ثورة 30 تموز، وبسبب أنه نوع مغاير لسينما المقاولات السائدة؟ لا شك في أن ما حققه الفيلم من إيرادات فاق توقعات الموزعين والمنتجين وحتى كُثر من النقاد، وأنها تجربة تُثبت أن السينما المستقلة أو سينما القضايا يُمكن أن تجتذب الجمهور، وقادرة على تحقيق إيرادات إذا أخلص الموزع والمنتج في الترويج والتسويق لها، ومنحاها فرصة التواجد في عدد دور العرض السينمائي التي تحصل عليها أفلام الأكشن أو الكوميديا المبتذلة وغيرها. أفلت «اشتباك» من المصير المقرر له سلفاً أساساً بفضل إيمان مخرجه الشديد بما صنع وعدم استسلامه، وكاتبة هذه السطور كانت شاهدة على التحول واتخاذ موقف مغاير من أسلوب عرض الفيلم، ففي التجمع السينمائي الشهير بمدينة الشيخ زايد رأينا بعيننا مجموعة من الشباب يطلبون حجز تذاكر للفيلم في أول أيام عرضه، وكانت إحدى الحفلات الصباحية التي يفضل البعض الذهاب إليها لأنها أرخص بأكثر من ثلث ثمن التذكرة (30 بدلاً من 50 جنيها)، لكن العامل الجالس خلف الشباك أخبر الشباب أن الفيلم موجود فقط في القاعة الـcomfort أي أن كلا منهم سيدفع 60 جنيهاً. انصرف الشباب وهم في حالة دهشة وصوت نقاشهم الباحث عن سينما بديلة لملاحقة الفيلم لا يزال يصل إليَّ. بالطبع لم يستمر الوضع السابق طويلاً نتيجة محاولات المخرج المستميتة والقتالية للدفاع عن فيلمه وفك دائرة الحصار من حوله، والتي سانده فيها نقاد وصحافيون وأصحاب مواقع إلكترونية قاموا فيها بدعوة الناس لمشاهدة الفيلم «الذي يتم خنقه» مُؤكدين أنه قد تم التخطيط لرفعه سريعاً من دور العرض وأن الرقابة وربما جهات أخرى غير راضية عن الفيلم، وأنها كانت تودّ عدم عرضه أو اقتطاع أجزاء منه، لكن نظراً إلى أنه عرض بالخارج واحتفت به بعض الصحف العالمية سيكون الأمر محرجاً لها لو تم منعه، لذلك ووفق تفسير دياب «تقرر عرضه في سرية ومن دون أن يشعر به أحد ليتم وأده سريعاً حتى يقال إن الجمهور تجاهله”. صحيح أن نسخة الفيلم في ذلك التجمع السينمائي الشهير تُؤكد استمرار الأساليب البائسة لإدارة قاعات السينما، إذ لا تعرض عناوين النهاية كاملة، كما أن النسخة اتّسمت بالكثير من المشكلات في الترجمة - التي أتت متأخرة كثيراً عن الحوار – ومع ذلك لا يمكن إنكار أن تجربة عرض فيلم «اشتباك» في مصر تُؤكد أهمية الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في تقليص دور الرقابة، وفي جذب المتلقي وإعادته إلى دور العرض السينمائية، وربما تجعل بعض المنتجين والموزعين يُدركون أن هناك نوعية أخرى من الأفلام غير التجارية السائدة يمكن أن تجذب الجمهور وتحقق إيرادات ومكاسب غير متوقعة، إذا نالت فرصتها كاملة.

مشاركة :