الرجوع بالمجتمع إلى الماضي والنبش في الملفات القديمة فقط في المجتمعات التي تبني دولها من جديد كليبيا مثلاً لخلق الشعبوية وحشد الجماهير لا يِؤتي أكله دائماً... قد يؤتي أكله مثلاً عندما تتصالح الدولة مع مواطنيها وتقوم بجبر الضرر كما وقع في إفريقيا السوداء أو في المغرب في السنوات الأولى من وصول العاهل المغربي محمد السادس إلى مقاليد الحكم، بحيث أعطيت الكلمة لمن كان ضحية لسنوات الرصاص في سبعينيات القرن الماضي وتعويض المتضررين عن ذلك، وهذا ما يسمى في أدبيات العلوم السياسية بالعدالة الانتقالية... تلك مسألة محمودة تقوي المواطنة وتجعل الإنسان يشعر بحنان ودفء البلد الحاضن. أما أن يأتي كل وزير أو أي موظف سام وينبش في ملفات الحكومات والمسؤولين السابقين، ويعرون في بعض الأحيان نصف الفاعلين في المجال العام، فهي طامة كبرى ومصيبة آزفة تخلق بلبلة في المجتمع وموجات من ردات الفعل المريرة قد تؤدي ببعض أجهزة الدولة النافذة إلى محاربة أجهزة أخرى في حرب ضروس وأخرى غير معلنة ولزمن طويل، فما ذنب المئات من رجالات الدولة المقتدرين والأجلاء ذوي الكفاءات والخبرة في التسيير في تونس إذا عملوا في العقود الماضية؟ وكم هو معبر ما قاله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «اذكروا موتاكم بخير»... هذه المرحلة انتقالية، وهذا زمن جديد يجب على من حمله القدر أمانة المسؤولية النظر إلى الأمام... فنظر السائق الدائم في المرآة الخلفية للسيارة، سيجعله يدخل في حوادث قد تودي بحياته وحياة من معه. كما أنه يجب التشبع بالبراجماتية والحزم في القرارات المصيرية والابتعاد عن الشعبوية، وعن سياسات مؤقتة يؤدي ثمنها البلاد والعباد. ويجب أخذ الحيطة والحذر عند أخذ القرارات الاقتصادية، لأن المرحلة صعبة للجميع وعلى البلدان أن تتجنب مرحلة أزمة الثقة، فدور الحكومات يجب أن يكون هو طمأنة الرأسمال الوطني وتحفيز الأموال الأجنبية لجلب الاستثمار وخلق فرص الشغل وتحقيق التنمية... فأنت عندما تتبع الخطاب السياسي لدى المرشحين في الدول الغربية تكتشف واقعيتها، إذ ينطلقون من الواقع السياسي وليس من الخيال السياسي كما هو الشأن عند العديد من المرشحين في الأقطار العربية، وهذا الواقع يفرض على كل مرشح الالتزام بالقوانين السامية للبلد أي الدستور قولاً وعملاً، وقد يعارضون في حملتهم الانتخابية بعضاً من بنوده التي لم تعد صالحة، ولكنهم لا يتجرأون على تجاوز روح البنود لأن في ذلك تقليلاً من أهمية ثقة الشعوب ومبدأ الخضوع الجماعي لرغبة أصوات الناخبين، وهذا المبدأ يجب أن يعمم على كل الأوطان العربية لأن رئيس الحكومة عند ما يعين فإنه يصبح رئيساً لكل وزرائه مهما تعددت ألوانهم الحزبية وكثرت انتماءاتهم السياسية وإلا اصطفوا في خانة المعارضة ولم يدخلوا أصلاً في ذاك التحالف الحكومي، فعندما يتحدث رئيس فرنسا فإنه يتحدث لكل الفرنسيين يمينيين كانوا أو يساريين لأن صناديق الاقتراع خولته هذه الصفة. وفي العديد من الأقطار العربية التي دخلتها آليات الانتخابات الحديثة، تغلب على المقترحات التي يعرضها المرشحون في الانتخابات المحلية والتشريعية الشعبوية أكثر من العقلانية، ويخاطبون العوامل الثقافية والدينية التي يجد لها الخاص والعام آذاناً صاغية وتمثل الأطر المؤسسة لحالة الاستقبال الجاهزة للتجاوب خاصة مع الذهنية الشعبية العامة، فتأسيس السياسة يكون في منحى واحد ويبتعد عن التطرق الصحيح والعقلاني لكيفية إصلاح الدولة اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، وأنا لست في وارد إلقاء اللوم على من يستعمل رموز مرجعيته في مشروعه السياسي، لأن الانفتاح السياسي يقتضي حرية التعبير والمرجعيات، ولكن أنتقد الأحادية في التفكير والابتعاد عن العقلانية وإعمال الفكر الواقعي، والمرشحون من حقهم أن يختاروا البيئة المثالية للعمل وللاستثمار الحزبي جلباً للأصوات الظاهرة والخفية، والسياسي الحقيقي هو الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، ولكن العقلانية السياسية تقتضي أيضاً تجاوز مصدر التمثلات والمعايير والرغائب التي هي بمثابة المشترك الأكبر بين الناس والطبقات والأجيال، إلى خطب وبرامج عقلانية لا تهدف فقط إلى إشباع الحاجات الروحية والاجتماعية عند الإنسان، ولكن إلى إشباع حاجاته المعيشية والتنموية أيضاً، وهذا هو منطق السياسة الحديثة الذي يخدم قضية التنمية الديمقراطية والمواطنة الكاملة والمساواة بين الجنسين. فالواقعية والعقلانية والنضج مبادئ ثلاثة في الرأسمال السياسي الصحيح، وبدونها تحل الشعبوية وقِصر النظر وهلاك البلاد والعباد، على رغم قدرة الشعبوية على التعبئة التجييشية...
مشاركة :