«موسم الهجرة إلى الشمال».. الهروب من الأكاذيب

  • 8/14/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة: أحمد سراج من هو مصطفى سعيد؟ هل يستطيع كاتب أن يغامر ببناء شخصية كاملة من الفراغ، مسنداً لها أحداثاً وكتباً ومغامرات؟ وصل أمر المهتمين برواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح إلى هذا الحد، فقامت جريزلدا الطيب - فنانة بريطانية وباحثة في الأدب الإفريقي وقد تزوجت عبد الله الطيب، الكاتب السوداني - بالبحث والاستقصاء في تاريخ المبعوثين السعوديين لأوروبا وتتبع حيواتهم.. والحق أن البحث طريف وبه شيء من التقارب بين أربع شخصيات وبين البطل، لكن هذا لا يقدم ولا يؤخر كثيراً في فنية رواية الطيب وفي أثر شخصياته.. التي اجتهد في أن يحولها إلى ما يشبه الحكاية الشعبية فقد اختار لها راوياً بلا اسم، وجعل حكاية مصطفى شذرات على ألسنة من يقابلهم. نحن أمام مبعوث عاد إلى قرية معزولة مسالمة بعد أن أنهى دراسته في إنجلترا، منتظراً تعيينه في العاصمة السودانية، يجد هذا المبعوث، الذي يتحول إلى راوٍ مشارك للنص، أهله في انتظاره ومعهم شخص غريب عن القرية.. يعرف الراوي/ البطل من جده أنه مصطفى أحد أبناء الخرطوم وأنه تزوج فتاة من القرية.. وأن عائلة الفتاة مخطئة لكن هذا شأنهم كما أن مصطفى رجل بكل ما تعنيه الكلمة. يتقدم الراوي خطوة من حكاية مصطفى حين يكتشف أثناء زيارة الأخير له الأدب واللياقة اللذين يملأان حديثه.. وهكذا ينفتح الباب على سؤال آخر: لماذا هو مختلف؟ ولا تترك الأيام الراوي تائهاً ؛ فذات يوم يتورط مصطفى في سهرة مع الراوي ورفيقه رغم رفضه، وهنا يلقي قصيدة بإنجليزية صافية ثم يمضي تاركاً الراوي في حيرة هائلة.. لكنه سرعان ما يأخذ الراوي ليحكي له حكايته. هو رجل بلا عاطفة، تخيل أنه يستطيع الرد على ما جرى من احتلال بالهيمنة على المرأة الأجنبية لذلك لم يترك امرأة قابلها، وكأنه يثبت قوة هذا الغول الإفريقي الهائلة، ورغم أن معظم النساء اللاتي مر بهن، كن يستحققن معاملة أفضل، فإنه ترك نفسه تسير نحو التدمير والتدمير فقط.. ما من امرأة عرفها إلا وانتهت حياتها بفاجعة. وذات مصادفة يلتحق مصطفى اليتيم بالتعليم ويبرع فيه، يثير الناس ولا يثار، وفي القاهرة يقابل مسز روبنسون وزوجها ويعكفان على تربيته ثم يسافر إلى بريطانيا وهناك يستمر تفوقه ويتم تعيينه بالجامعة ولما يتم العشرين، وهنا تظهر علاقاته الكثيرة، وأسماؤه المتعددة: حسن، وتشارلز، وأمين، ومصطفى، وريتشارد ونساؤه المتيمات، آن همند، وشيلا جرين وود، وإيزابيلا سيمور وتنتهي هذه العربة الطائشة بقتله زوجته جين موريس وحبسه سبع سنوات. كلما وطئ الراوي وجد أثراً لمصطفى منذ بداية تعلمه، حتى سفره وفاجعته، ومع كل رواية يبدو وجه جديد لمصطفى، وكلما حاول الراوي إيهام نفسه بالخروج من سجن مصطفى وهيمنة حكايته، ظهر خيط جديد زاد ولعه بالحكاية، ويمكنك أن تلمح صورة السودان المختلط بأوروبا في مصطفى بتبسيط قد يكون مخلاً: ماذا لو أن مصطفى يتيم الأب، هو السودان الذي تعهدته بريطانيا.. ولو دققنا النظر في نساء مصطفى فهن صور من بريطانيا ذاتها؛ البنات اليانعات الخارجات من معركة قادتها أمهاتهن لحرية المرأة، أجيال ما بعد الحرب العالمية الأولى وأزماتها النفسية، ضحايا الداخل البريطاني الذي حاول الحفاظ على مستعمراته بتربية وكلائه - تحسباً لما بعد الكولونيالية - فهل كان مصطفى سعيد رمزاً لعالم غارق في وحل الاستعمار والانتهاك والتشويه والأكاذيب، أو عابراً سقط مصادفة في وحل أعد بعناية؟ الرواية رغم عدد صفحاتها الصغير 176 من القطع المتوسط في طبعتها الأولى 1966 عن دار العودة ببيروت، فإنها حافلة بتفاصيل ثرية، ومفارقات كبيرة، وبوصف مسهب ووظيفي لأماكن مختلفة، وباستبطان لنفس الراوي، وبتحليل لنفوس من أمامه وكلامهم، إضافة إلى حزمة من القضايا المتشابكة المتداخلة، نظراً للفترة التي غطتها أحداث النص منذ العقد الأول للقرن العشرين حتى العقد الرابع، وهي فترة التغيرات الكبرى في أحوال الدول المستعمرة. كل شيء ناقص في الرواية.. كل شيء مشوه.. حتى انتقام مصطفى من الغرب.. لا يكتمل.. ولا يكمل.. لا إكمال سوى في الهروب إلى الشمال، الهروب من الأكذوبة في الغرب.. وفي الجنوب: مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل، استوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطمت قلبه. هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام. وخطر لي أن أقف وأقول لهم: هذا زور وتلفيق. قتلتها أنا. أنا صحراء الظمأ. أنا لست عطيل. أنا أكذوبة. لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة؟! لكن بروفيسور فستر كين حوَّل المحاكمة إلى صراع بين عالمين، كنت أنا أحد ضحاياه

مشاركة :