خبيثة جداً تلك الحملة التي أعلتْ الشأن المالي الخاص للرئيس سعد الحريري على الشأن الوطني العام، فاستمرأت المقاربة التي وقع فيها للأسف لبنانيون كثر، ومفادها بكل بساطة أن شركات الحريري تتعثّر ما يستتبع حكماً تَعثُّر مشروعه السياسي اللبناني. ومصدر الخبث ليس الربْط فقط بين مشروعٍ سياسي وتعثُّرٍ مالي، بل الإيحاء المداور والمباشر بأن هذا المشروع السياسي حبل سرّته مربوطٌ أصلاً بقرارٍ خارجي، وأنه ينتمي الى السعودية والخليج أكثر مما ينتمي الى لبنان، وبالتالي فأيّ وجهةِ نظرٍ متعارضة من تلك المنطقة مع وجهة نظر التيار العريض الذي يمثّله الحريري يترتّب عليها إلغاء الحضور والانسياق الفوري لما وراء البحار والصحارى، أما إذا حصل نقاشٌ - مجرد نقاش - فالعقوبة جاهزة وهي التضييق على الشركات وعدم دفع الالتزامات وسحب الدعم السياسي عبر الانسحاب من القدرة والتأثير وترْك الساحة للهلال «الممانع» و«ما حدا أحسن من حدا»... تيار مربوط بالسلاح الثوري الإيراني وتيار مربوط بالسلاح المالي السعودي. وإذا كان الاعتراف بأن اللوبي الإعلامي «الممانع» الخارج من حاضنةٍ سياسية عدوّة للحريات وكارهة للديموقراطية يسجّل أحياناً أهدافاً غير متوقَّعة في ساحاتٍ يُفترض أنها المدافِعة عن الحريات والديموقراطية، فإن الإقرار بالتقصير الاعلامي في الجهة المقابلة ضروري وواجب، ومن أبرز وجوهه الانجرار الى سجالٍ عقيم حول حقيقة أو لا حقيقة الوضع المالي المتعثّر للحريري، او حول صحة أو لا صحة وجود خلافات في وجهات النظر بين الحريري والسعوديين، أو حول دقة أو لا دقة انسحاب المملكة من الشأن اللبناني. أولاً، الحريري ليس رئيساً لشركة مالية في لبنان بل زعيم لتيار سياسي وطني عريض، وعليه فإن النقاش يجب أن يبدأ من هنا ويكمل من هنا. وإعلان الافلاس الحقيقي ينطلق من تَجاوُز هذه الفرضية والانغماس في الدفاع عن وجود ملاءة مالية أو تبرير التعثّر. ثانياً، يفلس سعد الحريري اذا تخلّى عن إرث والده السياسي في المبادئ والمشروع والشعارات وأسلوب العمل القائم على الثبات في العناوين الاستراتيجية والمرونة في التفاصيل، تكريساً للتوافق والاستقرار وتَقدُّم البلد الذي «ما حدا أكبر منه». يفلس، إن نسي او تناسى مشروع والده الشهيد في إعادة الدور والمكانة والرسالة الى لبنان. في البناء والإعمار، في التواصل مع العالم، في تكريس الوجه الحضاري لهذا البلد. ثالثاً، يفلس سعد الحريري اذا تخلى عن اعتبار مشروع رفيق الحريري عابراً للطوائف والمناطق. رابعاً، يفلس سعد الحريري اذا أظهر في الممارسة نقيض ما أعلنه من مبادئ، فهو يؤمن بالتعددية وبالحريات العامة ولا يمكن أن يتنكّر لهذا الإيمان مهما تغيّرت الظروف. وعندما ظهرتْ تبايناتٌ من داخل تيّاره وتجلّت في الانتخابات البلدية الأخيرة، كان أوّل مَن هنأ الناخبين واحترم خيارهم... فيما يمكن للمرء ان يتخيّل كيف كانت الثنائية الحزبية الشيعية ستتعامل لو واجهتْ في مناطق نفوذها وضعاً شبيهاً بما حصل في طرابلس. خامساً، يفلس سعد الحريري إن تخلى عن الوسطية والاعتدال، وإن جنح لاستخدام التطرف والإرهاب والمذهبيّة فزاعة داخل طائفته وضدّ الطوائف الأخرى كما تفعل بامتياز فصائل الممانعة، أو إن «ساير» جيوش الفتح الجديدة أملاً في استقطاب عصَبٍ جديد أو رغبة في تصفية حسابات مع الآخرين. سادساً، يفلس سعد الحريري إن غيّر موقفه من سلاح «حزب الله» العابر للحدود والقارات، وإن استسلم لوجود فصيلٍ لبناني حاكم ومتسلط تابعٍ للواء القدس في الحرس الثوري الإيراني، وإن تَراجَع عن دعم السوريين في مواجهة أكثر أنظمة العالم إجراماً. قوائم العوامل التي تؤدي الى الإفلاس طويلة، وأَضْعفُها على المستوى الوطني العامل المادي، وهو عاملٌ تعثُّري متقلّب ومتحوّل وظرفي يتشارك فيه مئات رجال الأعمال وأصحاب الشركات العرب بفعل الأزمة الاقتصادية وتَراجُع أسعار النفط. أما الغنى الحقيقي فهو في الثبات على الخطّ والمشروع، وحتى الآن ما زال لدى الحريري فائضٌ كبيرٌ في «حساباته» السياسية والوطنية.
مشاركة :