ما أن تندلع الصدامات في مجتمع معين، ويختل السلم الأهلي بسببها وجراء تداعياتها، حتى تنتعش سلوكيات تبادل الاتهامات بين مكونات المشهد السياسي في ذلك المجتمع، ويتمحور كل ذلك حول طرفين أساسيين يشكلان طرفًا معادلة ذلك المشهد، وهما السلطة التنفيذية وروابطها الإدارية من جانب، والمعارضة السياسية وتحالفاتها من جانب آخر. يغيب في سماء ذلك الجدال شبه العبثي الطائش الأهداف، الدور المهم، الإيجابي الذي يمكن أن تمارسه منظمات المجتمع المدني، ليس في وضع حد للمساجلات السياسية، بل لاقتلاع جذور أسباب اندلاع تلك الصدامات، وصب الماء على الأسباب التي أشعلت نيرانها. وتمارس منظمات المجتمع المدني م خلال ذلك، دورها الطبيعي الذي يعيد السكينة لأهل ذلك المجتمع، ويعيد دورة العلاقات المجتمعية إلى مسارها الصحيح. وبفضل هذا الدور الذي ينبغي أن يوكل لمنظمات المجتمع المدني يمكن فهم معادلة علاقة التناسب الطردي بين مستوى المكانة التي تحتلها منظمات المجتمع في منظومة العلاقات السياسية، وبين استتباب السلم الأهلي في ذلك المجتمع واستقراره. مثل هذه العلاقة، والدور الذي يتناسل منها ترصده الكاتبة العراقية نجلاء الخالدي، في تسجيلها لـ حصاد المجتمع المدني خلال العام 2012 في المجتمع العراقي، حيث نجدها تؤكد على دور منظمات المجتمع المدني في صيانة السلم الأهلي قائلة: لم يقتصر عمل منظمات المجتمع المدني على الجانب الخيري والانساني فحسب بل كان لها العديد من الاسهامات والمبادرات الاستراتيجية على مختلف المستويات الثقافية والسياسية والتنموية التي عززت من دورها ومكانتها في تقدم البلاد نحو الحياة المدنية، (وتضيف) ومن ابرز فعاليات منظمات المجتمع المدني خلال هذا العام الندوة التي نظمتها منظمة تموز للتنمية الاجتماعية بالتعاون مع مؤسسة فردريش أبيرت العالمية لمناقشة دور منظمات المجتمع المدني في الوساطة وحل النزاعات. شارك في هذه الندوة أكاديميون ومختصون في مسائل حل النزاعات السياسية وسبل معالجتها. وفي المجال التنموي والاقتصادي أقامت المنظمات غير الحكومية بالتعاون والتنسيق مع مجلس أمناء منظمة شفافية العائدات ندوة علمية ناقشت دور المجتمع المدني في عمل منظمة الشفافية ورصدها لحالات الفساد والرشوة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا وبإلحاح هو لماذا تراجع، إن لم يكن غاب دور منظمات المجتمع المدني العربية في التصدي للمشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي اليوم، والتي وصلت إلى مستوى تشظيته، وهدم أركان مقوماته، حتى بتنا نحذر من سحب مشروعات تفتيتية جديدة مبتكرة تعيد الحياة لمشروعات سايس - بيكو التقسيمية التي فرضتها القوى الاستعمارية على المنطقة العربية، وكان من جملة نتائجها الولادة القيصرية للمشروع الصهيوني الذي تحول إلى دولة؟ تقف وراء هذا التغييب لمنظمات المجتمع المدني العربية، وتقليص دورها في صيانة السلم الأهلي، مجموعة من الأسباب يمكن حصر الأهم منها في النقاط التالية: 1. عدم وصول المجتمع العربي المعاصر، إلى النضج المجتمعي الراقي، بمعنى الحضاري لهذه الكلمة، الذي يفسح في المجال تبلور مفهوم منظمات المجتمع المدني، ومن ثم تعزيز الدور المناط بها ممارسته في نطاق تكريس مفاهيم السلم الأهلي، وتعزيز دورها في غرس هذه المفاهيم في أذهان المواطن العربي، وتكريسها في سلوكياته اليومية. هذا النضج المطلوب الوصول إليه لا يوفره النقل العشوائي لبعض أدبيات عمل منظمات المجتمع المدني، ولا الحفظ الأصم لمواد قوانين تأسيسها. بل يتطلب حتى جغرافيا ينطلق من قناعة راسخة المعالم في ذهن المواطن العربي بكل ما يعنيه قيام منظمات مجتمع مدني، والدور الذي يمكن أن تمارسه في تطوير مجتمع يقوم، أساسًا، على قيم السلم الأهلي، بما تفرضه تلك القيم من قبول للآخر، وإصرار على الدفاع عن حقه في ممارسة أنشطته في نطاق القوانين والأنظمة المعمول بها في مجتمعه. 2. إمعان القوى السياسية، بمختلف ألوان أطيافها في تسييس منظمات المجتمع المدني العربية، إلى درجة فاقت مستوى التشويه والحرف عن المسار، فوصلت إلى درجة تجويفها من الداخل كي تفقد القدرة على ممارسة الدور المطلوب منها القيام به، وخاصة في الحفاظ على السلم الأهلي. ولذلك وجدناها في حالة كثيرة، كما شاهدنا ذلك، مؤخرًا، في سوريا والعراق ودول عربية أخرى، تقوم بأدوار سلبية، أسهمت في إشعال نيران الحروب الأهلية بدلاً من إطفائها.، ورأيناها في حالات كثيرة أخرى، تتصدر القوى التي تؤجج تلك النيران، وتسكب الزيت عليها. وتحولت تلك المنظمات بفضل ذلك إلى عامل أساس في هدم أركان قصور السلم الأهلي بدلا من صيانتها. 3. طأفنة منظمات المجتمع المدني، وإلحاقها بمشروعات فئوية تقوم أساسًا على تقسيم المجتمع بدلاً من تعزيز لحمته، وهو مسألة تناقض جوهر منظمات المجتمع المدني، وتجردها من الأسباب الرئيسة وراء قيامها، والتي هي تعزيز مقومات تكامل علاقات العيش المشترك، تحت سقف المجتمع الواحد بين فئات ذلك المجتمع المختلفة، وطوائفه المتعددة، بغض النظر عن انتماءاتها الدينية، أو جذورها العرقية، أو خلفياتها الطائفية. في ضوء كل ذلك، ومن أجل استعادة منظمات المجتمع المدني العربية دورها في الدفاع عن حياض السلم الأهلي، والحفاظ على قيمه، ينبغي الانطلاق أساسًا من حزمة من المعتقدات والقناعات التي تتمحور جميعها نحو فهم واحد لمنظمات المجتمع المدني، وقناعة تامة لدورها الذي يفترض فيها أن تمارسه، وهو كما تعرفه الكثير من الأدبيات، دون الحاجة للدخول في الاختلافات الثانوية بين تلك التعريفات. فهي تملك إطارًا عامًا يجمعها، حيث يعرف المجتمع المدني على أنه ذلك الفراغ الذي تملؤه مختلف أنواع المؤسسات التي لا تتبع للهيكلة الحكومية في دولة معينة، والتي استطاع عدد من الأفراد المعروفين بتفوقهم في مجالاتهم، أو بميولهم التطوعية، أو بأفكارهم التي يعتقدونها، تأسيسها والإشراف عليها خدمة للمجتمع، وتنمية له. وتعمل مؤسسات المجتمع المدني ضمن الأطر القانونية النافذة والمعمول بها على أرض الدولة... وكل ما يصدر عن هذه المؤسسات يصب في اتجاه تحسين حياة الناس، وصيانة حقوقهم، وتعريفهم بواجباتهم، إلى جانب حفظ كرامتهم، ونشر القيم العليا بينهم.
مشاركة :