تمر الساعات ثقيلة على سناء عليان، وهي تفكر في الحالة الصحية لولديها، الطبيب محمد البلبول، والملازم محمود، اللذين يضربان عن الطعام منذ أكثر من 45 يوما، احتجاجا على اعتقالهما الإداري في السجون الإسرائيلية، ولا تجد سوى «الدعاء لله» في مواجهة الموقف العصيب. وتعيش أم محمد، صراعا اختبرته كل أم أسير أضرب في أوقات سابقة في السجون الإسرائيلية، بين «القلب» الذي يتمنى أن ينهي فلذات أكبادها الإضراب فيأكلون ويعيشون، وبين «العقل» الذي لا يريد للأبناء الأعزاء الانكسار والهزيمة. وقالت أم محمد لـ«الشرق الأوسط»: «الوقت يمضي مثل سكين، لا أعرف ماذا يحدث بعد ساعة، لا أعرف ماذا سيحدث إذا صبرنا للغد، أو بعد أسبوع، أو شهر من الآن. لا أعرف إلى متى سيصمدون، ما هي الأضرار الجسدية وما هي النتائج». وأضافت: «إنهم أبنائي. أتمنى مثل كل أم أن يكونوا بخير. لو أطيع قلبي فإني أتمنى أن يتوقفا فورا، لكني لن أقبل لهما الانكسار، لا أقبل لهما الذل، لا أقبل لهما الهزيمة». تصمت قليلا، وتتنهد: «لقد قالا لي قبل شروعهما بالإضراب: هناك فرق بين أن تعيش عزيزا أو ذليلا. وأنا لا أقبل لهما الذل والأعمار بيد الله». وهذا الدرس البليغ لم تتعلمه معلمة الأجيال من كتاب ديني أو مدرسي، بل من تجربة فلسطينية صعبة، عندما فقدت زوجها أحمد البلبول، قبل 8 سنوات، على يد قوات إسرائيلية خاصة، اغتالته و3 من رفاقه وسط مدينة بيت لحم. كان محمد ومحمود ونوران، صغارا وقت ذاك، واضطرت والدتهم إلى أن تحمل همّا مركبّا: فقدان الزوج الذي كان أيقونة للمقاومة في مدينته ويحظى بشعبية كبيرة، لها تبعاتها، وإعالة الأطفال الذين ما زال أمامهم مستقبل كبير ومعقد ومحفوف بالمخاطر. تخرج محمد في كلية طب الأسنان في جامعة 6 أكتوبر، قبل أعوام قليلة فقط. وتخرج محمود برتبة ملازم في جامعة الاستقلال العسكرية في أريحا قبل عامين، في ترجمة فعلية لمثل شهير طالما قيل لهما من المحبين والأقارب: «اللي خلف ما مات»، لكن ذلك أيضا كان له ثمن. وتعتقد أم محمد أن أبناءها يدفعون ثمن كونهم أولاد لأبيهم. وهذا الثمن الكبير اتضح أكثر لطبيب الأسنان، الذي بدأ يحقق نجاحا كبيرا قبل اعتقاله، والذي أرسل لوالدته رسالة بخط اليد، من داخل سجنه، يقول فيها، إن عليها أن تتذكر أنها زوجة أحمد البلبول، وأنهم أبناؤه، وإنهم يدفعون هذا الثمن بكل حب ورضا وتقبل وفخر كذلك. كانت صور أحمد تملأ جدران المنزل المتواضع في حارات بيت لحم القديمة، مثلما تأخذ مكانها في قلوب الزوجة والأبناء، مع صور أخرى كثيرة ومنتشرة للأسيرين محمد ومحمود والابنة الصغيرة ومدللة أبيها نوران، التي جربت قبل أشهر قليلة فقط، مرارة الاعتقال مثل شقيقيها، في تأكيد إضافي أن العائلة تدفع ثمن تصفية حسابات. قالت نوران، إن المحقق الإسرائيلي أجبرها على مشاهدة لقطات فيديو لاغتيال والدها، واخبرها أنه سيجعلها تزور السجن مرارا، وسيأتي بوالدتها وشقيقيها كذلك، قبل أن ترد عليه نوران ابنة الـ15 عاما، بسؤال ذكي ومستفز: «لماذا تكرهوننا»؟ وأضافت نوران التي تدخلت كثيرا خلال النقاش مع والدتها، إنها لمست حقدا كبيرا ومبالغا فيه من قبل المحققين والقضاة. وتفاجأت بواقع صعب ومعقد داخل السجون، ترك أثرا كبيرا لا تنساه. لا تشعر نوران، التي أفرج عنها الشهر الماضي بحريتها، وتقول إن حريتها الحقيقية هي أن تضم شقيقيها بين ذراعيها وينعمون بالحياة معا تحت سقف واحد. وهذه الأمنية بدت للوالدة صعبة ومؤثرة. فقالت: «أسأل نفسي أحيانا، لماذا أنا متعبة أكثر من غيري. عقاب أم ابتلاء. أقول في نفسي، يا رب احنا بنحب الناس والناس بتحبنا». وأضافت: «لقد عشنا حياة صعبة على الدوام.. عندما كان أحمد مطاردا، كان محمد ومحمود ونوران ينامون في سرير واحد معي. عندما كنت أسمع صوتهم (الجيش الإسرائيلي) في الخارج، أبدأ فورا في إيقاظ أبنائي بعدما ذاقوا رعب الاقتحام المفاجئ للجيش. كنت لا أريد لهم أن يستمروا مع هذا الخوف.. لم يكونوا يشعرون بالأمن والأمان وهم صغار، وهذا مستمر حتى قبل الاعتقال (تضحك مع مسحة حزن): كان محمد يمازحني دائما قبل اعتقاله: يما بدنا نفصل تخت كبير يوسعنا كلنا». ومضت تقول: «عشنا 10 سنوات صعبة أثناء مطاردة أحمد، ودفعنا ثمنا باهظا عندما خسرناه.. وما زلنا.. إنها ضريبة متواصلة ولا تنتهي». رن جرس الهاتف مرارا أثناء الحديث الطويل. محامون يضعون الوالدة في صورة التطورات الأخيرة، وصحافيون يطلبون مقابلات، ومسؤولون في التنظيمات السياسية يرتبون لزيارات تضامنية. بدت الوالدة ممتنة للجميع، لكنها يائسة من قدرة أي أحد على إحداث اختراق ما. وقالت: «لم أتلق وعدا واحدا شافيا حتى من كبار المسؤولين. كل ما أريده هو أن أضمهم.. أفرح بهم..أشوف ولادهم». سألتنا كثيرا عن الاحتمالات لنهاية الإضراب وكأنها تتعلق بطوق نجاة. وبطبيعة الحال منذ دخل ولداها الإضراب، قبل 47 يوما، لم يسمح لها بالاتصال بهما أو تلقي أي اتصالات. وتعزل إسرائيل الشقيقين في زنزانتين منفردتين بعد أن عرضتهما على المشفى مرارا. وقال محامي نادي الأسير، إن الوضع الصحي للأسيرين البلبول في تراجع، وإنهما يعانيان من أوجاع في الصدر، وارتجاع معوي، وصعوبة في المشي والتنفّس والنوم، وضعف في النظر، علاوة على انخفاض حاد في الوزن. ولم يشفع هذا كله لهما في عدم تلقي الضرب والإهانات مرات كثيرة. كما لم يشفع لهما في المحكمة العليا الإسرائيلية التي رفضت، الأحد الماضي، الالتماس المقدم للإفراج عنهما. قالت أم محمد إن ذلك يعد مؤشرا على نية إسرائيل تركهما حتى الموت، لكنها واثقة أنهما سينتصران على الاعتقال الإداري. والإداري هو قانون بريطاني معمول به منذ أيام الانتداب، ويتيح اعتقال الأشخاص من دون محاكمة أو إبداء السبب، في مخالفة واضحة لمعايير الاعتقال وفق القانون الدولي. وإضراب محمد ومحمود ليس الأول ضد هذا الاعتقال، وسبقهما إليه بلال الكايد، الذي تجاوز إضرابه 65 يوما، وآخرون متضامنون مع البلبول والكايد. تفكر سناء في أخذ أولادها إلى الخارج، لكنها تستدرك متذكرة ما كان يقوله لهم والدهم: «ما تخلوا حدا يضحك عليكو ويغريكم تتركوا الوطن. يا بابا هذه أرضكم هذي فلسطين أحلى من كل البلاد». تقول إنهم لن يستجيبوا على أي حال. تجهز سناء لأولادها سريرا كبيرا يجمعهم معا بعد الإفراج، ولا تتمنى أكثر من «حياة كالحياة».
مشاركة :