محمد حماد وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)، (الأنعام: 25 - 45). هذه الآيات الكريمة نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يجلس معهم وحده وألا يحضر المجلس ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وأن يفرد لهؤلاء مجلساً على حده، فنهاه الله عن ذلك فقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ .. الآية. وروي عن خباب بن الأرت قال: فينا نزلت، كنا ضعفاء عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغداة والعشي، فعلمنا القرآن والخير، وكان يخوفنا بالجنة والنار، وما ينفعنا، والموت والبعث، فجاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فقالا: إنا من أشراف قومنا وإنا نكره أن يرونا معهم فاطردهم إذا جالسناك، قال: نعم، قالوا: لا نرضى حتى نكتب بيننا كتاباً، فأتى بأديم ودواة، ليكتب فنزلت هؤلاء الآيات. هو خباب بن الأرت الذي بادر إلى الإسلام وسارع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسمع منه ويسأله عن هذا الدين الجديد، وكان صاحب عقل راجح وقلب نظيف، وفطرة سليمة، اشتهر باستقامته ومهارته في صنعته، ما جعل فتيان قريش وسادتها يقبلون على السيوف والنبال التي أتقن صناعتها، وعلى ما يحتاجون إليه من أداوت تصنع من الحديد، فكان من قدره أن يكون من المسلمين الأوائل، وقد شرح الله صدره، وأسلم قبل أن يدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم، وقيل: كان سادس ستة أسلموا على ظهر الأرض، وقد جاء وقت كان فيه خباب سدس الإسلام، وانقلب حاله، وأعرضت عنه قريش وكفارها، وناصبوه العداء، وأعلنوها حرباً على كل المسلمين خاصة منهم الضعفاء، وكان واحداً منهم. تعذيب وحشي كان خباب شجاعاً، وكان الحق يملؤه، فلم يكتم إسلامه عن أحد، وهو القين المملوك لسيدته، ولا عصبية له تحميه، وليس له من يصد عنه عتاة المشركين، ومن تكبرهم واستعلائهم على الضعفاء، ولم يمنعه ذلك من أن يكون أول من أظهر الإسلام بمكة، وكما هو متوقع، وكما هي طبيعة المعركة بين الحق والباطل، أوذي خباب وعذب، وفتن في دينه، وثبت خباب على الحق ولم تجد معه ألوان التعذيب التي واجهوه بها، صبر ولم يعط الكفار ما سألوا، ولم تنفع معه كل أنواع الإغراءات، وظل قوياً بالحق رغم الإيذاء، والإغراء، وتزايدت موجات التعذيب وتعددت صنوفه، حتى إنهم كانوا يضعون الحديد المحمى على جسده فما يطفئ النار إلا الدهن الموجود في ظهره، يقول: لم يكن أحد إلا أعطي ما سألوه يوم عذبهم المشركون، إلا خباباً كانوا يضجعونه على الرضف، فلم يسمعوا منه شيئاً، ما دفعه هو، ومن معه، ممن لا ظهر لهم ولا مانع، إلى أن يرفعوا شكواهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يطلبوا منه أن يستنصر لهم الله -عز وجل-، يقول خباب: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟، ألا تدعو الله لنا؟. يقول خباب: فقعد وهو محمر وجهه فقال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). مدد إلهي جاء المدد من عند الله، فأمر نبيه بأن يقدمهم ولا يسمع كلام المشركين فيهم، وقد أراد الله بذلك أن يظهر استغناء دينه ورسوله عن الاعتزاز بالطغاة القساة، وليظهر لهم أن أولئك الضعفاء خير منهم، وأن الحرص على قربهم من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولى من الحرص على قرب المشركين، ويروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قاعداً مع عمار وصهيب وبلال وخباب بن الأرت في أناس من ضعفاء المؤمنين، فلما رأى المشركون ذلك حقروهم فخلوا به، فقالوا: أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وقالوا: إن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب قعوداً مع هذه الأعبد، فإذا جئناك فأقمهم عنا، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب، وضعفاء المسلمين الستة قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بقوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)، (الأنعام: 25 - 45 فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة ودعاهم فأتوه، وهو يبادرهم بقوله: سلام عليكم، يقولون: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا، فكنا بعد ذلك نقعد مع النبي، فإذا بلغنا الساعة التي كان يقوم فيها قمنا وتركناه، وإلا صبر أبدا حتى نقوم. مكانة مميزة وظل المسلمون الأوائل ممن تعرضوا لتعذيب المشركين يحظون بتكريم خاص، ومكانة مميزة عند المسلمين، ويروى أن خباب بن الأرت جاء إلى عمر وقد صار أميراً للمؤمنين، فقال: ادنه فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا رجل واحد، قال خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟، قال: بلال، فقال له خباب: يا أمير المؤمنين ما هو بأحق مني، إن بلالاً كان له في المشركين من يمنعه الله به، ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يوماً أخذوني وأوقدوا لي ناراً ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما اتقيت الأرض أو قال برد الأرض إلا بظهري، ثم كشف خباب عن ظهره يري أمير المؤمنين آثاراً مما عذبه المشركون، فنظر عمر فهاله ما رآه، فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل. شهد خباب بدراص، وأحداً، والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأظهر فيها شجاعة وفروسية، وظل محباً للجهاد في سبيل الله، وشارك في حروب الردة، وفي الفتوحات أيام أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وصدق الله ورسوله الله صلى الله عليه وسلم، ورأى خباب بأم عينه ما بشره به رسول الله، وعم الإسلام جزيرة العرب، وفتح الله على المسلمين العراق وبلاد فارس والشام ومصر، وأتم الله نوره على الأرض. ونزل خباب في الكوفة وبنى لنفسه بيتاً متواضعاً عاش فيه حياة زاهدة، ومات سنة سبع وثلاثين، عن عمر يناهز ثلاثة وسبعين سنة.
مشاركة :