كثر الحديث مؤخراً عن المشكلات المتعلقة بتسريح الموظفين السعوديين، وكذلك غير السعوديين، ولا أستغرب أن رأي الشارع لا يختلف كثيراً عن تلك القراءات. الغالبية ترى أن الموظف هو الضحية وأن تلك الشركات هي الجلاد المتعسف وأنه يجب التعامل معها بحزم. وبينما قد يبدو هذا الاستنتاج منطقيا للوهلة الأولى، إلا أنه يميل إلى التسطيح وعدم ملامسة جذور المشكلة. دعونا أولاً ننظر إلى تلك الشركات التي تسرح الموظفين. ما هي طبيعة عملها؟ من هم عملاؤها الرئيسيون؟ ما هي مميزاتها التنافسية؟ ما هي مؤهلات وخبرات كوادرها وقادتها؟ بالتفكر في هذه التساؤلات سوف نستنتج مباشرة أن هذه الشركات تعمل في قطاع المقاولات أو قطاعات مماثلة تعتمد على التوريد للمشاريع الحكومية في الإنشاءات والبنى التحتية والصحة وغيرها. ومما لا شك فيه فإن تلك الشركات مرت بطفرة غير مسبوقة في الطلب خلال العقد الماضي بسبب الإنفاق الحكومي العالي خلال تلك الفترة. وكان حينئذ أسهل القرارات، بل الأكثر احتياجاً، هو توظيف المزيد والمزيد من الموظفين لتلبية الطلب المتزايد. وبما أن طبيعة أغلب تلك الأعمال لا تصنع فرص عمل كثيرة مناسبة للسعوديين فإنه لا بأس بتوظيف أي عدد من السعوديين لغرض الإيفاء بالنسبة الأدنى من العمالة الوطنية حسب قانون العمل الذي يعتمد في قياسه على الكم 100 %والنوع صفر %. لذلك فإن تسريح تلك الشركات للموظفين عندما تقل المشاريع والمبيعات هو متوافق جداً مع قانون الطبيعة. فالذي يدفع الرواتب بالفعل هو العميل الذي يشتري الخدمات والبضائع وليس رب العمل مهما بلغت ثروته. ما هو الحل إذن؟ الشركة الآن لا تبيع ولا تستطيع دفع الرواتب، ولا التوظيف من باب أولى طبعا. الحقيقة أن أفضل توقيت للتفكير بحل مناسب لهذه المعضلة كان منذ عشر أو عشرين سنة عندما كانت المشكلة مستقبلية مرجحة وليس الآن عندما أصبحت المشكلة حاضرة وطارئة. ولكن ثاني أفضل توقيت حسب المثل الشعبي الصيني هو الآن. الحل موجود في رؤية 2030. ولكنه غالباً لن يؤتي ثماره بشكل سريع لأنه حل إستراتيجي يعالج جذور المشكلات ولا يميل للتسطيح الذي نجده في أغلب المقالات التحليلية. خلال السنوات الماضية تحاورت مع العديد من المسؤولين في الصناديق والجهات الحكومية وغير الحكومية التي تهتم بدعم وتمويل المشاريع. وكنت في كل اجتماع أحاول إيضاح حقيقة لم يقتنع بها الكثيرون ولكنها اليوم قائمة بشكل جلي. جزء من هذه الحقيقة هو أن اقتصاد أي دولة في العالم ينمو ويزدهر عندما يكون هناك دعم للمشروعات الريادية. والحقيقة أنني لم أجد خلافا أو معارضة على ذلك. ولكن المشكلة في الجزء الآخر وهو تعريف المشروعات الريادية. هناك شرطان يجب تحققهما في المشروعات لكي نستطيع تسميتها مشروعات ريادية وهي: 1) يجب أن توفر تلك المشروعات فرص عمل حقيقية للمواطنين. 2) يجب أن تصنع فرصا اقتصادية متنوعة، وألا تكون معتمدة فقط على مصادر الثروة الطبيعية. حسب الإحصاءات العالمية هناك فقط 6% أو أقل من الأشخاص المستثمرين ممن يستطيعون توفير الشروط أعلاه، وبالتالي يمكن تسميتهم بالرياديين. ولكن هذه النسبة البسيطة تسهم في صنع أكثر من 60% من فرص العمل في تلك الدول التي تحتضن مشاريعهم. ومما لا شك فيه أن العديد من الدول المتقدمة تنبهت لهذه الحقيقة منذ عقود ووفرت المناخ والدعم المناسبين لأصحاب الأفكار الريادية. حتى إن بعض الاقتصادات الصاعدة مثل البرازيل والهند أصبحت تنشئ المراكز التي تهدف إلى اكتشاف هذه الثروة البشرية الواعدة. ففي البرازيل مثلا يوجد حاليا مشروع هدفه البحث عن المواهب الريادية في المدن غير الرئيسية بهدف دعم ابتكاراتهم، مما سيسهم في تنمية تلك المدن ونقل المواطنين في تلك المناطق من البطالة والطبقة المعدمة إلى العمل والطبقة الوسطى وتنمية تلك المناطق بدلا من إجبار سكانها على الانتقال للمدن الكبرى بحثا عن العمل. ومما لا شك فيه فإن ذلك سيساهم في التنمية الاقتصادية الشاملة وكذلك الاستقرار السياسي على المدى البعيد. لو أننا طبقنا المبادئ المذكورة أعلاه منذ عشر سنوات لوجدنا اختلافا كبيرا اليوم ولما اعتمدنا على أولئك المستثمرين الذين صنعوا لنا مجرد فرص وهمية جمعوا من خلالها المال، واندثرت أعمالهم غير الريادية مع أول هزة اقتصادية.
مشاركة :