لا أنت غلطان يا أخي

  • 8/21/2016
  • 00:00
  • 42
  • 0
  • 0
news-picture

عندما سألني أحد الأصحاب عن سر وجود التطرف في المجتمع، وعما أراه جذورا تغذي تلك الأغصان، التي تنبت منها الأفكار المتطرفة، رددت عليه بكل ثقة: وحدانية الرؤية هي السبب. فطالما بقي المرء ينظر إلى رأيه على أنه الصحيح، وإلى آراء الآخرين بأنها أخطاء يقينية؛ لا مجال لاحتمالات الصحة فيها، فإن خريفا مظلما سيمر قبل أن يستيقظ المجتمع من حالات إنبات التطرف فيه. ولن يزول ذلك الخريف، إلا إذا تعوّد الناس على أن كلامهم أو جزءاً منه عرضة لأن يكون خاطئا، وأن الآراء الأخرى عرضة لأن تكون أو يكون جزء منها صوابا. كتبت أبحاثا وأوراق عمل في مناسبات متعددة بهذا الخصوص، وكنت في عدد منها أطرح التساؤلات المتعلقة بمقولات في التراث العربي؛ يحدد فيها أصحابها الصحة المطلقة فيما يقولونه، من مثل: «والصحيح ما أثبتّه لك، فاعلمه!». وتمر للأسف مثل هذه المقولات على الباحثين والمحققين مرور الكرام، وكأن وظيفتهم لا تتعلق بنقد ما يشتغلون عليه، بل كأن وظيفة الدراسات العلمية لا تقوم أساسا على الشك في كل نظرية، حتى تثبت بأدلة متعددة شبه يقينية، وليس بمجرد قول صاحبها، بأنها عين الصواب. والمشكلة الأكثر إيلاما، أن هذه التوجهات العنجهية في الآراء تنتقل من الأفكار النظرية المتعلقة بالفلسفة والعلوم إلى جوانب الحياة المختلفة؛ فيرى بعضهم أن ما يأكله ويشربه ويلبسه ويركبه من السيارات، وما يستخدمه من الأثاث وغيره هو المقياس، الذي يفترض أن يحكم عليه بصحة الأشياء أو مثاليتها. وربما كان السوء مركّبا، إذا وجدت في بعض المراحل التاريخية حالات مسايرة عند كثير من الناس لتلك النماذج، التي أصبحت توصف بأنهم «الناس الطيبون» أو «أهل الصلاح»، بينما يطبقون في حياتهم الخاصة، أو دون أن يعرف الآخرون نمط حياة آخر، مما يروق لهم فعله وتطبيقه. تذكرت كل ذلك، عندما سألني أحدهم: هل بنيت بيتا؟ وعندما أجبته بالنفي، انهال عليّ بالتخطئة والتقريع: «لا.. لا، أنت غلطان يا أخي! من يضمن الدنيا؟» وما إلى ذلك من عبارات متوالية يريد أن يؤكد بها صحة زعمه، بأني غلطان، مع أنه لم يسألني عن أسباب عدم قيامي ببناء بيت خاص لي؛ فقد أكون غير قادر على ذلك، أو لي فلسفة خاصة في الأمر. فهذه الأمور ليست من القضايا العامة، التي يصح فيها رأي واحد، إلا عند أصحاب هذه اليقينيات في وضع السيناريوهات والأسباب والحلول والنصائح، التي يرى أن على أحدهم أن يقدمها في كل مكان، حتى لو كان في صالة انتظار عند الطبيب، أو لراكب مجاور له على مقعد الطائرة. وعندما ربطت الظاهرة في ذهني بما كنت استغربه من استفتاح لطرح الموضوعات الجديدة بين الناس، أو عرض بعض القضايا على الموظفين المعنيين بحل بعض مشكلات المواطنين في الجهات الحكومية، أو حتى على بعض المسؤولين الكبار؛ إذ يبدأ كبار السن على وجه الخصوص بعبارة: «خلني أعلمك...»، تيقنت أن الظاهرة متجذرة في ثقافتنا المحلية، حيث يكون العلم دائما في داخل الأفراد، ولا يعرفه الآخرون. فهل إدراج تعليم فلسفي مبسط لأسس الحياة، وطرق التعامل بين الناس في المجتمعات، كفيل بأن يدرك المرء لدينا، أنه ربما عرف شيئا، لكن معرفته ليست هي العلم بالضرورة؟ أظن أن التفكير في طرق متعددة، ووسائل لعلاج هذا الأمر في هذه المرحلة ضروري جدا، قبل أن يستفحل لدى الأجيال الشابة، التي أصبحنا نعرف أن هناك قوى شريرة تود الاستفادة من أي نقاط ضعف لديها.

مشاركة :