فيلم «بن حور» الجديد يخفق في اختبار الجودة فنًا وصناعة

  • 8/21/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يدخل هذا الأسبوع فيلم «بن حور» (Ben Hur) المنافسة على المركز الأول في مباراة الفيلم الأكثر نجاحًا وإقبالاً. وأرقام يوم الجمعة (أول من أمس) تفيد بأنه محشور في المركز الثاني بين فيلمين، هما «كوبو والخَيْطان» (Kubo and the Two Strings) في المركز الأول، و«كلاب الحرب» (War Dogs) دراما وسيرة فعلية لمقاولي سلاح منحهما البنتاغون قبل سنوات غير بعيدة 300 مليون دولار لشراء أسلحة للجيش الأفغاني. أما نقديًا، فهو الثالث بينها وبفارق كبير. النقاد أحبوا «كوبو...»، ورأفوا بـ«كلاب الحرب»، لكنهم كالوا لفيلم «بن حور» بلا رحمة بعدما شاهدوه في عرض خاص خلال الأيام القليلة الماضية. لو لومونيك قال عنه في «ذا نيويورك بوست»: «السيناريو يذهب بالقصّة إلى حيث لا تعني شيئًا». الناقدة كايت تايلور في «ذا غلوب أند مول» الصادرة في تورنتو قالت: «بينما يكشف الفيلم عن هشاشته، هناك لحظات هاربة تقترح أن أحدهم خلف هذا الفيلم الذي تكلف 100 مليون دولار، كان يفكر كيف يمكن إعادة تقديم هذه الملحمة بطريقة عشوائية لجمهور 2016». وسورن أندرسون كتب في «ذا سياتل تايمز»: «رخيص على كل صعيد. هذا (البن حور) بالكاد يمكن اعتباره ملحمة». حتى الأقلية التي تحمست للفيلم، مثل جوردان هوفمان في «ذا غارديان» البريطانية لم تجده كاملاً. كتب هوفمان: «لا أستطيع التأكيد بما فيه الكفاية كم يصبح الفيلم رخيصًا في النهاية». * الأصل الروائي ما يجعل مهمّة «بن حور» الجديد صعبة في نيل الاستحسان هو أن مقاليد الإخراج سلمت إلى المخرج تيمور بكمامبيتوف المولود في كازاخستان قبل 55 سنة، الذي شق طريقه إلى هوليوود بعد فيلم واحد معقول هو «مراقبة ليلية» سنة 2004. بكمامبيتوف انخرط بين سينمائيي هوليوود وأخرج سلسلة من الأفلام المتوهجة بالإثارة المصنوعة ديجيتال والحكايات غير المروية على نحو صحيح، ومنها «أبراهام لينكولن: صائد الفامبايرز» (2012). ليس أن المشكلة في استغلال اسم رئيس جمهورية أميركي وضع تشريعات جديدة للولايات المتحدة واغتيل بسببها، بل في تصويره سفاحًا يقتنص من مصاصي الدماء، كما ينص العنوان. إلى جانب أن هذا الفيلم وبضعة أخرى حققها في هوليوود، لم يتمتع بأي دلالات فنية تستدعي التقدير. لكن «بن حور» أسوأ ما أنجزه إلى الآن، ورد الفعل مضاعف في هذا الشأن لأن الفيلم الأصلي يُعد واحدًا من تلك الأعمال الملحمية التي احتفلت هوليوود بها منذ مطلع السينما الصامتة ولسنوات كثيرة من بعد. الرواية وضعها ليو والاس سنة 1880. وكان قائدًا عسكريًا (برتبة ماجور جنرال) ثم حاكم ولاية نيو مكسيكو بعدما خاض الحرب الأهلية الأميركية لصالح الجيش الشمالي. خلال حقبة ولايته، وضع «بن حور: حكاية المسيح» كملحمة دينية وجدت رواجًا كبيرًا بين القراء. في جوهرها هي حكاية ذات نبرة مسيحية راجت بين القراء، لكونها حرصت على إظهار التسامح ونبذ فعل الانتقام. بطل الرواية اليهودي جودا بن حور ترعرع صبيًا وصديقه ميسالا في بيت لحم. ثم افترقا، إذ توجه الثاني إلى روما بقناعات معادية للدين. ذات يوم انهار سقف منزل جودا، وأصاب قائد الجيش الروماني. ميسالا الذي بات قائدًا كبيرًا في الجيش الروماني أمر بإلقاء القبض على جودا حيث تمت معاملته كعبد. أما والدته وشقيقته فوضعا في السجن إلى أن أُصيبا بالبرص. بعد أن نال عفوًا من قائد روماني آخر وتدرّب على السلاح والقتال وضع جودا نصب عينيه الانتقام من ميسالا، لكنه يستيقظ على دعوات المسيح للعفو والتسامح فيقلع عن ذلك متحولاً إلى المسيحية بدوره. الأفلام التي تم اقتباسها من هذه الرواية (التي تألفت من سبعة أجزاء) أخذت ما سنح لها أخذه من الحكاية الأصلية. نسخة 1907 القصيرة التي أنجزها سيدني أولكوت (ما زالت متوفرة على الإنترنت) تعاملت مع جزء يسير حول إلقاء القبض على جودا بن حور. مثير للانتباه أنه لتفادي التصوير الداخلي آنذاك، تقع الأحداث ما بين سطح البيت والشارع فقط. نسخة 1925 (الصامتة أيضًا) حَوَتْ، في نحو ثلاث ساعات، الحكاية ذاتها موسعة وذات بداية ونهاية تتفقان مع الحكاية الأصلية، وتنتهي بمفهومها على عكس، وإلى حد معين، من نسخة بيلي وايلدر اللاحقة (1959) التي تناثرت عليها الأوسكارات فنال العمل أوسكارات أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل في دور رئيسي (شارلتون هستون) وأفضل ممثل في دور مساند (هيو غريفيث) وأفضل تصوير (روبرت سورتيس) وستة أوسكارات في الجوانب الفنية المهمّة (تصميم ملابس، تصميم إنتاج، توليف، موسيقى... إلخ). * أصالة صامتة كل النسخ المذكورة (ونحو خمس نسخ سينمائية أخرى بعضها توجه إلى الفيديو مباشرة) باستثناء النسخة الصامتة القصيرة سنة 1907 حوت ذلك الفصل المثير من مشاهد سباق العربات التي تجرها الخيول في ميدان روما. على متن أحدها بن حور (تشارلتون هستون)، وعلى متن أخرى عدوه ميسالا (ستيفن بويد) لجانب عربات أخرى معظمها يتحطم خلال السباق على نحو عنيف لترتكز المباراة على الخصمين المذكورين. هذه الأوسكارات الإحدى عشر التي حصل عليها الفيلم هي من أصل اثني عشر ترشيحا. الترشيح الوحيد الذي لم يحظَ بجائزة تتوّجه هو أوسكار أفضل سيناريو مقتبس، كما وضعه كارل تنبيرغ، وأضاف إليه غور فيدال. المفاجأة هي أن نسخة عام 1925 الصامتة، كما حققها فرد نبلو، تميّزت بالأصالة والعمق في الدلالات أكثر من نسخة وايلدر التي أعابها السعي لإتقان المباراة ومشاهد المبارزة أكثر مما حوت عمقًا في الشخصيات والدلالات. التمثيل، من الجميع، كان حسب النص بعيدًا عن روح الإبداع. وحسب الناقد والمؤرخ ديفيد تومسون، فإن نسخة وايلدر هي محاولة «الأكاديمية الاحتفاء بمستوى من الأفلام الملحمية» فشلت على نحو ذريع. لكنها ما زالت أفضل بعدة أميال فضائية من النسخة الحاضرة التي ستزور معظم الصالات العربية خلال الأيام القليلة المقبلة. رغم الاستعانة بتمثيل وصوت مورغن فريمان في الفيلم الجديد، إلا أنه أقرب لأن يكون الجوهرة الوحيدة اللامعة بين الممثلين المتوفرين، بمن فيهم جاك هيوستون في دور بن حور. المشاهد مبنية في الأساس على نص جيد يحتوي على طرح درامي جيد للمواقف، لكن تنفيذها يمارس أقسى ما يمكن أن يتعرّض إليه نص من سوء المعاملة. المونتاج الذي رغب به المخرج لفيلمه يشبه آلة فرم اللحم حيث المشاهد تتكوّم في لقطات من ثوانٍ قليلة مصحوبة بتلك الإيقاعات المختلفة، أبرزها ضرب طبول سمعناه في أفلام ضخمة أخرى (قرع طبل يتردد عدّة مرات وبسرعة متزايدة كلما اقتربت اللحظة المرئية من ذروة ما). * آلة فرم أما الفصل المنتظر، ذلك الذي يدور في حلبة السباق ذاتها، والذي نراه بكل خلجاته وإثارته في نسختي 1925 و1959، فعولج بطريقة المزيد من حشد اللقطات السريعة والانتقال من رأس إلى رأس ومن حصان إلى حصان ومن دولاب عربة إلى دولاب عربة أخرى. بما أن الجهد الأكبر لكل هذا يقع في غرف الاستوديوهات التي تقوم بأكثر من نصف مهام التصميم وتتدخل في التصوير لتضيف إلى الجزء الحي منه ما يناسب من تفاصيل، فإن روح العمل مفقودة تمامًا. حين المقارنة بين هذا الفصل وذاك الذي في فيلم بيلي وايلدر يجد المطلع بعدًا شاسعًا ليس فقط على صعيد اختلاف مفهوم العمل (التصوير الحي والمجهد في مقابل شذرات المؤثرات المبرمجة على الديجيتال اليوم)، بل أساسًا في كيف كان صنع الأفلام يتم في تلك الحقبة الرائعة من تاريخ السينما. البذل الشديد في إحياء السباق على نحو واقعي. توزيع اللقطات غير الخادعة وتوفير مشاهد تبقى ثابتة وقوية الإيحاء من دون أن تضطر إلى اللهاث عبثًا. هناك عقل وراء التنفيذ في السابق، وقلب مشاهد يعلو ويهبط تبعًا لما يتم تصويره (تكفي الإشارة إلى لقطات تعرّض عربة بن حور إلى منشار لولبي ثابت في عربة ميسالا التي قد تعرض بن حور لحادثة، ثم المشهد الذي تنقلب فيه عربة ميسالا وتجرّه العربة تحتها). فن في صناعة المشاهد كما يجب أن تُصنع فعلاً ما يجعل المشاهد شريكا فيما يدور عوض أن يكتفي بالفرجة الباردة ويخرج من الفيلم من دون أن يستفيد منه شيئًا. حتى نسخة 1925 لها جمالياتها وقدراتها النافذة على صعيدي الفن والصنعة ذاتهما. هذا مع العلم بأنه لم يكن مشروعًا سهلاً على الإطلاق. ففي عام 1924 تم تأسيس شركة سينمائية كبيرة باسم «مترو - غولدوين - ماير» (نسبة لثلاث شركات أصغر) و«بن حور» كان الفيلم الأكبر التي في جعبتها. عندما بوشر بتصويره في منتصف العام ذاته، اكتشفت الشركة أن الفيلم، الذي انتقل إلى إيطاليا لتصوير مشاهده الخارجية ومشهد الميدان الشهير، يعاني من فوضى العمل. فانبرى المنتجان لويس ماير وإرفينغ ثولبيرغ لإنقاذه بالتوجه إلى إيطاليا، وطرد المخرج المنتدب تشارلز برابِن، واستبدال الممثل الذي كان عين للعب دور بن حور (جورج وولش)، وتعيين فرد نابلو مخرجًا ورامون نوفارو ممثلاً. كذلك تم التخلي عن كثير من المشاهد التي تم تصويرها. في تلك الأثناء، سقط ثولبيرغ بنوبة قلبية وعاد بعدها إلى هوليوود، وتعرض ماير إلى إصابة ما استوجب خلع كل أسنانه، ولم ينقذ الفيلم سوى المخرج فرد نابلو الذي لم يسبق له أن عالج فيلمًا بهذا الحجم من قبل ولا في ظروف سياسية مناوئة، إذ شهدت الفترة صعود الفاشية ومعارضتها تصوير الفيلم، ثم ظهور مشكلات متعددة بين الفنيين والعمال والممثلين الثانويين الإيطاليين الموالين للفاشية وأولئك المعارضين لها. بميزانية قدرها نحو 4 ملايين دولار اعتبر الفيلم أغلى فيلم صامت في التاريخ. لكن الفيلم نجا بوضوح من كل هذه الكبوات، ويومها لم تكن تأسست جائزة الأوسكار وإلا لنال الفيلمَ حظ منها.

مشاركة :