محمد إسماعيل زاهر في منتصف التسعينات وفرت جامعة القاهرة كتاب المفكر العربي الكبير العراقي جواد علي المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للطلبة بأسعار زهيدة، ذهبنا لشراء الكتاب من دون أن نعرف جنسية صاحبه، وفي اللافتات التي علقتها الجامعة لم يكن هناك أي إضافة للاسم تدل على جنسيته، لم تكن وقتها الثقافة العربية متورطة في شعور غير مسبوق بالهزيمة بما يؤدي إلى الالتفات إلى هويات قطرية أو إلى معارك صغيرة، أو إلى تأريخ لنظام ثقافي عربي يمتلأ بمصفوفات الهزيمة والنكسة والاضمحلال.. الخ. لعل نموذج جواد علي مفيد عند قراءة ما صرح به يوسف زيدان مؤخراً ويتعلق بمنطقة تخلو من أي نشاط ثقافي أو فكري سابق على الإسلام، فالكتاب يقع في 10 مجلدات ويتكون كل مجلد من أكثر من 600 صفحة من القطع المتوسط، ولا يرصد علي في مشروع عمره أيام العرب وشعرائهم.. الخ فقط، ولكن، هناك حديث عن فنون وعادات وتقاليد ومعتقدات، أي نظام ثقافي متكامل، وعلى درب علي بإمكاننا أن نقرأ بعض أعمال المصريين خليل عبد الكريم وسيد القمني، واليمنية أبكار السقاف، والعراقي هادي العلوي، والسوريين حسين مروة والطيب تيزيني، ومجموعة أعمال عديدة تصدرها رابطة مؤمنون بلا حدود بالتعاون مع المركز الثقافي العربي في المغرب ومعظمها لباحثين ينتمون إلى بلدان المغرب العربي، وخلاصة هذه الأعمال على تباين أهدافها وأدواتها ومناهجها وإيديولوجيتها تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الرسالة المحمدية لم تنطلق في منطقة جدباء، بل كانت هناك رؤى فكرية خصبة وقوانين وقيم، استثمر النبي الكريم الجيد منها في الدعوة إلى الإسلام، ولذلك أحياناً ما نصادف بعض الكتابات تطالب بنزع صفة الجاهلية عن المرحلة السابقة على الإسلام، لقد كانت جاهلية متعلقة بتصور توحيدي بالدين، وليس العلم أو المعرفة أو القيم. والمثير في الموضوع طالما نتحدث عن زمن الهزائم والدخول في معارك لا علاقة لها بقضايا الثقافة الحقيقية، أن الضجة السابقة لزيدان حول موقع المسجد الأقصى في الجزيرة العربية هي امتداد لتيار تاريخي كان كمال الصليبي قد بدأه بكتاب التوراة جاءت من جزيرة العرب، ثم واصله فاضل الربيعي القدس ليست أورشليم والمسيح العربي، وزياد منى جغرافية التوراة، مصر وبنو إسرائيل في عسير، وعذراً للقارئ فلا أعرف جنسية الربيعي أو منى، وكلها كتابات تشكل تياراً في إعادة التفكير في تاريخ الجزيرة العربية بوصفها المكان الذي خرجت منه اليهودية والمسيحية، أي أنها لم تكن منطقة جدباء مرة أخرى، حتى لو اتفقت أو اختلفت مع الأطروحات السابقة. في تسعينات القرن الماضي وفي أعقاب حرب الخليج الثانية لم يعد المثقف العربي يتعاطى مع تراثه ككل، فحدثنا المغربي محمد عابد الجابري عن عقلانية مغربية في مقابل باطنية وهرمسية، لا عقلانية مشرقية، ودخل المصري حسن حنفي على الخط في حوار شهير ودال مع الجابري بعنوان حوار المشرق والمغرب، ثم تابع السوري جورج طرابيشي الجدل في الرد على الجابري، وبعد سنوات من كل هذه الكتابات وبرغم انتماء أصحابها، وللمفارقة، إلى التيار العروبي أو اليساري، ستجد هوية قطرية تطل من بقايا هذه الكتابات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وكان قد سبق كل هذا في الثمانينات كتاب، للعروبي آنذاك الإخواني المتأسلم فيما بعد، المصري محمد عمارة أخرج المغرب العربي من دائرة العروبة، أما السوري عزيز العظمة فتحدث عن مدرسة مصرية فكرية تكتب بخفة، ولاحقاً بما يقرب من عقدين عارضه السوري عبد الرزاق عيد، ثم استثمر المغاربة رواج الجابري لنقل الكتابة الفكرية المنهجية إلى المغرب مع صعود أسماء مثل أركون وهشام جعيط وعبد الكبير الخطيبي.. الخ. كانت الهوية العربية تتفتت ثقافياً وللأسف على أيدي كبار المثقفين، المفكرين /المنظرين/ العروبيين/ اليساريين، بفعل الشعور الدائم بالانكسار ونتيجة لنظام ثقافي قومي ظلوا هم يؤرخون له بالهزائم: الحملة الفرنسية، الاستعمار، النكبة، النكسة، حرب الخليج الثانية، سقوط بغداد 2003، ولم يكن يفصلهم عن أتمام هذا الانكسار إلا إعلان نعي الثقافة العربية، بعضهم بالفعل نعى المثقف العربي، أطروحة اللبناني علي حرب الشهيرة حول نهاية المثقف وسقوط النخبة، ولم تكن الصورة بأحسن منها في المنتج الثقافي من شعر ورواية وقصة، أصبحنا نقول الفكر في المغرب، وكأن المشارقة لا يفكرون، والرواية تزدهر في منطقة الخليج، وكأن مئات الروايات الصادرة في البلدان العربية الأخرى، لا نشاهدها يومياً، تأسف رضوى عاشور في كتابها الحداثة الممكنة على موضوع أوردته جريدة الحياة اللندنية في صفحتها الأولى يوم 8 نوفمبر 2007، بعنوان القاهرة تعلن.. اللبناني خليل أفندي الخوري هو أول روائي عربي. هذا الكلام ضروري في مسألة يوسف زيدان حيث يبدو أن البعض بات يتمترس حول هوية قطرية، مع أننا كلنا، من المحيط إلى الخليج، ندرس الشعر العربي قبل الإسلام في المرحلة الابتدائية، وما زالت إشكاليات العرب واحدة هي نفسها لم تتغير، وتحدياتهم ثابتة في مكانها لم تتزحزح منذ الحملة الفرنسية، وما زالت أزمات الثقافة تراوح في مكانها، فلم يتحول أي شعب عربي إلى شعب قارئ، بينما الشعوب الأخرى لا تقرأ، وما زلنا نطلق على تلك المنظومة التي نعمل فيها الثقافة العربية، وما زالت صورتنا أمام الآخرين هي هي بل أسوأ، وما زلنا كلنا ننتمي إلى الأطراف، وما ترديدنا لمنطق الهوية الضيق إلا ترديد ببغائي لسقوط السرديات الكبرى في المركز الغرب. هو خطاب في حاجة إلى نقض تام من الأساس من زاويته الفكرية والثقافية العامة، ولكن تلك قصة أخرى. والكابوسي في الموضوع الآن أن تلك الهويات القطرية التي كانت كامنة في بطون الكتب أو في الجلسات الخاصة ورددها الكثيرون الذين يرفعون شعار القومية أو الإنسانية، ثم نظروا لها وروجوا لها، نصدرها الآن إلى الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، نصدرها إلى البسطاء، ولنكن صرحاء مع النفس، فالمواطن العربي العادي لم يكن يعاني أي مشكلة في شعوره بالانتماء إلى وطنه وإلى أمته في الوقت نفسه وبالقدر نفسه وبالاعتزاز نفسه أيضاً، بل وحتى صناعة المثقف العربي لمنطق الهوية الضيق منذ التسعينات من القرن العشرين، وفي معظم الصحف العربية ودور النشر والإعلام الرسمي لم تكن هناك إلا إشارات نادرة لانتماء قطري لمفكر أو شاعر أو روائي أو مطرب أو ممثل...الخ، وفي مصر على سبيل المثال لم تكن الأغلبية المطلقة تعرف أن فريد الأطرش وأسمهان وصباح وفايزة أحمد.. ليسوا مصريين، ولم نقرأ نزار قباني في مراهقتنا وشبابنا ونحن نعرف بأنه سوري وأفضل قصائده الساخرة من السياسة العربية ككل، وباستثناء قصائد محمود درويش التي يتحدث فيها عن فلسطين لا يمكن تجنيسه من شعره، وأول من كتب عنه المصري رجاء النقاش، ولم يحصل نجيب محفوظ على نوبل بوصفه مصرياً، وأفضل من كتب عنه السوري جورج طرابيشي، ولم يكتب الغذامي بحرفية في النقد بوصفه سعودياً، ذلك المنتقد للمتنبي ونزار قباني في الوقت نفسه، والصورة مختلفة ومشرقة تماماً عند البسطاء، أولئك الذين نحاول جرهم إلى مشاكلنا السخيفة والمفتعلة. مسألة يوسف زيدان هي صناعة مثقفين بامتياز، من داخل الوسط الثقافي يمكن تسميتها بلعبة الغميضة، فالرجل قال فرقعاته الإعلامية في ندوة لم يقرأ أحد من حضورها أياً من كتاباته التي يمجد فيها جزيرة العرب قبل الإسلام، هو يدرك ذلك، ويدرك وللأسف منطق الندوات، ثم منطق مواقع التواصل الاجتماعي، في لعبة الغميضة التي يلعبها الأطفال، الكل مفتوح العينيين ما عدا أحدهم، أما في لعبة الغميضة الثقافية فالكل مغمض العينيين ما عدا السيد المثقف الذي يعرف ويعي تماماً ثقافة الجهل العامة التي تعم حتى ما يسمى بالوسط الثقافي. هو منطق لعبة الغميضة المعكوسة، ففي اللعبة الأصلية الأطفال يمرحون ويلعبون ويشاكسون الطفل المغمض العينيين، أما الغميضة الثقافية فالمثقف هو الذي يضحك ويسخر من الجميع، وأيضاً يجامل من يلعبون معه بإشارته إلى علماء العربية من الأمازيغ. مسألة يوسف زيدان تستحق دراسة مستفيضة من وجوه عدة، كيف يقول المثقف كلاماً ومؤلفاته تناقضه تماماً؟ كيف تنقلب الندوة إلى ضحك من المحاضر والحضور إزاء مثل الموضوعات الحساسة؟ ماهو منطق الندوات على وجه الدقة؟ هل لم يقرأ أحد الحضور كتب زيدان؟ وإذا كان الرد على هذا السؤال بالإيجاب لماذا لم يناقشه أحدهم ؟ وإذا كان بالسلب، لماذا تمت استضافته أصلاً؟ هل هو منطق الندوات في زمن التردي؟ وفي النهاية نأسف للقارئ على ذكر جنسيات مثقفينا، فكلنا عرب، وكلنا وبمرارة تحولنا في هذا الزمن الرديء إلى سراق إبل حتى من أطلق التوصيف بخفة ومن استمعوا إليه وضحكوا، ولكنه منطق السخرية من واقع صنعوه بأنفسهم، وإيضاح للقارئ أن منطق الهوية الضيق صناعة ثقافية بامتياز، ويبدو أنه لا هوية جامعة لمعظم المثقفين العرب الآن إلا الهم والتردي، وسيبقى البسطاء وللمفارقة أكثر وعياً بجذورهم القومية وانفتاحاً على مكوناتهم المتعددة وتسامحاً مع الآخرين من السادة المثقفين الذين يعتقدون أن العوام سيظلون إلى الأبد أسرى لعبة الغميضة.
مشاركة :