25 عاماً على انهيار الاتحاد السوفياتي: محاولة انقلاب فاشلة غيّـرت عالمنا

  • 8/24/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

بينما تستمرّ تداعيات الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا في رسم معالم هذه الدولة وفي تحويل المشهد السياسي في الشرق الأوسط، نحتفي بذكرى انقلاب فاشل آخر حصل قبل ربع قرن، ولا يزال يرسم معالم عالمنا حتى يومنا هذا. لقد أدى «انقلاب آب (أغسطس)» الفاشل في موسكو، خلال العام 1991، إلى زوال الاتحاد السوفياتي بعد ذلك بأربعة أشهر. فماتت قوّة عظمى بطريقة غريبة، وعكس موتها هذا حياتها الغريبة: فالحال أنّ الاتحاد السوفياتي لم ينهَر إثر مجازر الجيوش النازية، ولا بنتيجة ثورة شعبية عنيفة. بل مات رازحاً تحت الضغط، في أعقاب الفشل الذي تكبدته «لجنة الدولة لحالة الطوارئ»، وهو الاسم الذي أطلقه على أنفسهم الأطراف الذين أقدموا على محاولة الانقلاب. مرّ ربع قرن، ولا نزال نشعر جميعاً بالتداعيات حتّى يومنا هذا. كان موت ما اعتُبر في الماضي قوة عظمى محزناً، فالحال أنّ جميع كبار المسؤولين فيها، أي مجمل أعضاء الطبقة الحاكمة، شاركوا في إعداد الانقلاب. وقد شمل هؤلاء المسؤولون، الذين عُرفوا باسم «مجموعة الثماني»: نائب رئيس الاتحاد السوفياتي، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع، ووزير الداخلية، ورئيس الكي جي بي... علماً أنّهم كانوا في الحكم منذ الأساس، ما يدعو إلى التساؤل حول ما دفع بهم إلى تنظيم محاولة انقلاب؟ صبيحة يوم 19 آب 1991، بدأت دبّابات ونخبة وحدات سلاح المظلات تتوافد إلى وسط موسكو، تزامناً مع إعلان النظام الجديد على شاشة التلفزيون. بيد أنّ محاولة الانقلاب هذه كان مصيرها الفشل الذريع، حتى أنه تسنى اعتقال بوريس يلتسين، رئيس جمهورية روسيا السوفياتية الاتحادية الاشتراكية وكبير منافسي ميخائيل غورباتشوف وخطة إصلاح الاتحاد التي أطلقها. وسرعان ما اعترض آلاف المواطنين طريق الدبابات في الشوارع، وبعد يومين، أعلن منظمو الانقلاب استسلامهم، لعدم تحلّيهم بما يكفي من الشجاعة لأمر الجنود بإطلاق النار على المتظاهرين المدنيين. وفي 21 آب من ذلك العام، قُتل ثلاثة متظاهرين دهساً تحت عجلات مركبات الجيش، أثناء محاولتهم صدّ مسارها، ليتوافر بالتالي عدد الضحايا الضروري لهزم محاولة الانقلاب، وهو أمر يصعب تصديقه اليوم إن فكّرنا في مئات آلاف السوريين الذين قُتلوا حتى قبل أن يتغير النظام في دمشق، ويرى كثيرون حتى يومنا هذا أنّ أسرة الأسد الحاكمة هي الحل، وليست المشكلة في سورية. كان الهدف من تشكيل «مجموعة الثماني» إنقاذ الاتحاد السوفياتي من التفكك، لكنّ كل ما فعلته هو تعجيل هذا المصير. وما قضى على الاتحاد فعليّاً لم يكن التجنيد القومي عند جوانب الاتحاد السوفياتي، في أماكن كالقوقاز أو البلطيق، إنما الصراع على السلطة ضمن النخبة السوفياتية بين غورباتشوف، والجناح المحافظ لمجلس السوفيات الأعلى (النومنكلاتورا)، والإصلاحيين بقيادة يلتسين. وتماماً كما كانت البيريسترويكا مشروع إصلاح انطلق عند القمة باتجاه الشعب، جاء تفكك الاتحاد السوفياتي كنتيجة للصراع الداخلي القائم بين أعضاء النومنكلاتورا السوفياتية. وحتى بعد ربع قرن، يصعب التصديق أنّ الاتحاد السوفياتي انهار: لماذا لم تدافع مختلف القوات المسلحة، كالجيش الأحمر وقوات «أومون» والـ «كي جي بي» عن دولتها؟ حتى الآن، لم يصدر عن خبراء العلوم السياسية أيّ تبرير لهذا التناقض. لكن يجدر التطلع أيضاً إلى لغز أكبر حجماً: ما كان مصير الطبقة العاملة، أي البروليتاريا الثورية التي فشلت في الدفاع عن دولتها، أو أقله ماذا حلّ بالمزايا التي تمتعت بها في «ديكتاتورية البروليتاريا» التي أعلنت هذه الطبقة إرساءها؟ كان انهيار الاتحاد السوفياتي عبارة عن عدد من الأحداث التاريخية المجموعة في حدث واحد، فشمل انهياراً جيوسياسياً لإمبراطورية، وانحساراً لنفوذ موسكو، ليس فقط في الدول المحيطة الواردة في حلف وارسو التي تم احتلالها في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن أيضاً في مناطق شكّلت جزءاً من الإمبراطورية القيصرية. وأدى ذلك إلى فراغ في السلطة تم ملؤه بعدد من الفاعلين الوطنيين القوميين وبتدخلات دولية، علماً أنّ انهيار الاتحاد السوفياتي، إن حصل، قد انهار فعلياً على رؤوس شعوب القوقاز، وتسبّب بسلسلة من الحروب العنيفة، فلم يعد السلام إلا بعد ربع قرن. ولا بدّ من الكلام أيضاً عن انهيار النموذج السوفياتي لـ «الاقتصاد المنظم»، الذي حصلت بنتيجته خصخصة بالجملة للعقارات السوفياتية خلال فترة زمنية قصيرة، وذلك كله باسم اقتصاد السوق والديموقراطية البرلمانية. بيد أنّ هذه الخصخصة أولدت استقطاباً مجتمعيّاً لم يُشهَد له مثيل، بين عدد صغير من «الأوليغارشيين» الذين أصبحوا يملكون فجأة كمّاً كبيراً من رؤوس الأموال والعقارات، وبين الحشود الشعبية التي خسرت مدّخراتها ووظائفها وضمانها الاجتماعي. والواقع أن الخصخصة الحاصلة في عهد يلتسين، التي نالت دعماً وتشجيعاً من سياسيي ومستشاري الغرب، هي التي ولدت نظاماً اجتماعياً جديداً في روسيا وأوكرانيا وما بعدهما. وشملت المرحلة الانتقالية، في الحقبة ما بعد السوفياتية، وعداً لمواطني «الدول المستقلة حديثاً» بالانضمام إلى الغرب، في ما كان يُفترَض أن يتحوّل إلى ديموقراطيات رأسمالية. لكن بدلاً من ذلك، نرى اليوم بوضوح أنّ هذه الدول أصبحت تشكّل اليوم جزءاً من العالم الثالث. الواقع أن الخصخصة الشاملة ولدت رأسمالية وعلاقات سوق، لكنّ ذلك حصل على حساب القضاء على الديموقراطية. وقد تمت خصخصة العقارات السوفياتية بأبخس الأسعار. ومثالي المُفضَّل على ذلك هو عن معمل إنتاج السيّارات «زيل» (زافود إيميني ليخاتشوفا)، الذي كان يوظف مائة ألف عامل في وسط موسكو، وقد بيع مقابل مبلغ لا يتعدّى 16 مليون دولار أميركي! ومع نهب المعامل بهذه الطريقة، أقيل الموظفون، أو أسوأ من ذلك، واصلوا العمل من دون أن يتقاضوا رواتبهم طوال شهور، وحتى سنوات. وبالتالي، كيف يمكن استحداث ديموقراطية، إن كان المواطنون الذين يُفترض بهم أن يتمتعوا بحقوق سياسية (كحقّ التصويت واختيار ممثّلين سياسيين) يعيشون حالة من عدم الاستقرار على صعيد أمنهم الفعلي وقد أصبحوا مهمّشين اجتماعياً؟ بقي هذا «التناقض» قائماً في تسعينيات القرن العشرين، إلى أن أرسى بوتين نظامه وفرض الاستقرار على النظام الاجتماعي الجديد، المتمثل برأسمالية من دون ديموقراطية! يوصلني ما سبق إلى بُعدٍ ثالث، متمثل بالانهيار الأيديولوجي وتداعياته. فمنذ القرن التاسع عشر، كانت فكرة التطوّر عبر إحداث تغيير ثوري نموذجاً سائداً في أوروبا. والواقع أنّ الماركسية كانت قد منحت الطبقات أهميّة، بعد أن أشارت إلى أن العمّال يمثّلون طبقة اجتماعية متناسقة، تملك القدرة على إحداث تغيير ثوري وعلى استحداث مجتمع من نوع جديد يزول فيه الاستغلال الاجتماعي، شأنه شأن التفرقة الطبقية والحاجة إلى وجود «دولة» كونها أداة قمع مستعمَلة للهيمنة على طبقات المجتمع. كان هذا النموذج اليساري سائداً في الغرب وبين أفراد النخبة المثقفة في العالم الثالث على امتداد القرن العشرين وحتى العام 1968، حيث برزت تناقضات في وعد لينين بحد ذاته، إذ أورد ضرورة توجّهنا نحو مجتمع خالٍ من الطبقات الاجتماعيّة عبر الاستيلاء على جهاز الدولة وتعزيز نفوذه الإكراهي بحق المجتمع! والواقع أنّ انهيار الاتحاد السوفياتي شكّل أيضاً انهياراً لهذه النظرة عن العالم، التي مرّت مرور الكرام عموماً بين المثقفين اليساريين، وقد تعذّر عليهم إجراء مراجعة متناسقة لتاريخ القرن العشرين انطلاقاً من مفهوم انهيار الاتحاد السوفياتي، فلم يجيبوا عن السؤال القائل: كيف يُعقل أنّ الطبقة العاملة السوفياتية، التي أمكن أن تكون طبقة من الثوار، لم تعمل على إعداد آلية دفاع تقيها من الانهيار الجماعي؟ بدلاً من ذلك، انسحبوا صامتين، مفسحين المجال أمام ظهور تفسيرات نيوليبيرالية لانهيار الاتحاد السوفياتي ولما تلاه من أحداث، وسامحين بتشكيل خريطة سياسية جديدة في الغرب بحد ذاته، فتخلّى اليسار الثوري سابقاً عن فكرة الثورة وكفاح الطبقات، واعتمد بدلاً عنها مبدأ الدفاع عن القطاع العام وعن إنجازاته الاجتماعية. أي بكلام آخر، ابتعد أقصى اليسار عن الثورة وعن تفكيك بيروقراطية الدولة كوسيلة للدفاع عن نفسه، بعد أن كان يجاهر بموقفه هذا من الديموقراطية الاجتماعية، مفضّلاً تبنّي مواقف أكثر ليبراليةً، ما صعّب تمييزه بالتالي عن الليبراليين أو المحافظين في كثير من الأحيان. لم يمنع استسلام اليساريين القدامى إيقاف مجرى التاريخ، فبقيت الثورات تهب وتفاجئنا. وفي عصر العولمة، ما عادت اللينينية تُلهِم الأجيال الشابة وتبحث عن تبرير للصراع المسلح، وحلّ مكانها مفهوم جديد يُعرف باسم «الجهادية- السلفية». وفي الشرق، برزت موجة جديدة من «الثورات الملوّنة» ضد نظام الحقبة ما بعد السوفياتية. وفي هذه المرة، وجّهت الثورات أيديولوجيات ليبرالية حديثة، وعدت هي التالية بتفكيك الدولة وبيروقراطيتها، وبالسعي في الوقت نفسه للاستيلاء عليها وتعزيزها. ومن ثم حلّ الربيع العربي، معتمداً شعار الحرّية، وتحوّل إلى كوابيس في سورية وليبيا واليمن والعراق. ولم تتمكن الثورات، والثورات المضادة، من إطلاق تحليل طبقي كان ليسمح بقراءة الأحداث في سورية أو اليمن. حتى أن التحرّك المناهض للحروب في الغرب لم يشعر أنه معني بالموضوع، وقد نظر عموماً إلى الربيع العربي من زاوية مناهضَة الإمبريالية. وبالتالي، لا بدّ من ظهور منحى تفكير إنساني ناقد ومكافح، يحل مكان النموذج الثوري اليساري القديم. لكن هل يمكن أن يحصل ذلك في غياب نقد معمَّق للتجربة السوفياتية؟ الاتحاد السوفياتي انهار فعلاً، وخلّف عدداً كبيراً من اليتامى.

مشاركة :