استمع نور المحمود * كم قلماً تحمل في جيبك؟ - ولا واحد. * وكيف تنقل أفكارك إلى حبر لترسله إلى عيون القراء؟ - لا أحتاج إلى حبر، تخليت عن الكتابة مذ رأيت الأقلام في أيدي باعة الكلام. صاروا تجاراً محترفين، يغزلون الكلمات كما تغزل القرويات الصوف، بسرعة وحرفية ودون الحاجة إلى النظر في قطعة الصوف بين أيديهن. هذا الشبه هو في الظاهر فقط ، أما الفرق بين القرويات ومن يحيكون الكلمات فهو في الجوهر كبير. تلك السيدات صرن فنانات في صناعة تربين عليها منذ صغرهن، يمارسنها بحب وشغف وكأنهن يُحكن بعضاً من أرواحهن مع كل قطعة. بينما من يغزلون الكلمات، فهم يتدربون على سرقة الأفكار، ورص الحروف وسرعة الكتابة، وما يكتبونه.. أي كلام والسلام. * من يسرق الأفكار لا شك أنه يسرق أيضاً كيفية تقديمها للناس. - لا، بل قل إنه يسبق صاحب الفكرة الأصلية في الترويج لفكرته، يملك مهارات في التسويق يعجز أمامها الأول ولا يجاريه فيها الكاتب الحقيقي. بارع هو في التزيين، وصوته عال باستمرار، ويتحدث بصيغة المتكلم والأنا تسبقه في كل المحافل وفي كل المناسبات والأوقات. ويشعرك بأنه لولا الأنا لكانت الكلمة في أسوأ أحوالها، ولكان الإبداع تحجر، ولكانت المؤسسة التي يعمل فيها انهارت.. ولأنه محاط بهالة العظمة، فإن كل المحيطين به من وجهة نظره لا بد أن يتأثروا بحضوره وغيابه. * هل برأيك يجد من يصدقه؟ - لا بد أن يصدقه البعض، وأن تنطوي خدعه على الناس خصوصاً في البداية، فنحن اليوم في زمن العلاقات الشكلية، والمظاهر الخداعة، قلما تجد من يتعمق في تحليله لمعارفه، ومن يتعمق في العلاقة نفسها ليختار من بين الناس أقربهم إليه وأغربهم عنه. * أشم في كلامك رائحة الاستسلام والانسحاب من عالم الكتابة. لو كل واحد ترك مكانه للمزيفين لصرنا في غابة ظاهرها جميل وباطنها عفن. - الأسواق متخمة بكل أشكال وأنواع البضائع. حتى المكتبات صارت متخمة بالكتب، والكتب متخمة بالكلام المرصوص. من يتأمل كم الكتب وأعداد المؤلفين، يحسب أننا نعيش زمن نهضة فكرية وأدبية وثقافية جديد. أما الحقيقة فتقول عكس ذلك. الكل يكتب نعم، والكل يقرأ نعم، ووسائل الكتابة تنوعت وانتشرت، والمكتبات صارت رقمية أيضاً، والكتاب إلكتروني، والكلمة مطبوعة وليست حبراً على ورق.. لكن هل كل ما يُكتب صالح للنشر والقراءة؟ هل كل كاتب هو كاتب حقيقي؟ هل كل كلمة موزونة؟ هل كل الأفكار سليمة والصياغة أدبية؟ ليس استسلاماً ولا انسحاباً، إنما وقفة تأمل. ما أسهل الكلام، وما أصعب الإتقان. الكتابة فن وموهبة وصدق ينبع من أعمق نقطة في روحك وفكرك. فيها سحر موصول بالروح، لا يمكنك أن تتخلى عنه، يشدك إلى الحروف، تخرج الكلمات كالفراشات تحلق في كل مكان، سواء وجدت من يلتقطها أم بقيت حرة في الفضاء الواسع. noorlmahmoud17@gmail.com
مشاركة :