يبدأ ديوان «شال شامي» لهاشم شفيق (عن منشورات المتوسط ميلانو، بغداد 2015) بالنشيد الدمشقي. يلاحظ وجود حرف الشين في ست كلمات على التوالي. ثم يعود الحرف نفسه ليتكرر أربع مرات في السطر الأول من مطلع المقطع الثاني من القصيدة «شاخص في شجر المشمش الناحل ضوء المبتدأ». والشين حرف شقاق في اللغة، ويظهر أنه يسيطر ليصنع صورة غبشية لدمشق، حتى لكأن الناظر ينظر إلى المدينة، بدايةً من وراء مسافة، أو من وراء زجاج مضبّب، وفي القصائد الأخيرة من وراء زجاج مهشّم. للمدينة «غبش علاها يشبه الكريستال» (النشيد1) والشاعر يصفها كمن يتذكر دمشق المائدة: السماء حان، الأرض طاولة. سهر الكأس حتى الصباح، ومن كوى شامية في قاسيون، تتسلّل الذكرى. نحن نستريب من البداية، لأنّ الشخص الذاهل في صمته المستلقي على الحصباء والعشب «بعيدا عن هواء لوثته الحرب والشحناء « - كما يقول - لا يلبث أن يصف الهواء الشامي الداخل في مسام جسده بالشظايا. نستطيع أن نعتبر مقاطع النشيد الدمشقي التسعة والثلاثين غير المؤرخة، وهي أربعة أخماس الديوان الجسم الشعري الحقيقي للكتاب. ما لحق من قصائد مؤرخة بدءًا من آب (أغسطس) 2013 وما بعدها حتى آخر الديوان يهزل فيها الجسد الشعري هزالاً قوياً وتظهر كأنها شلو ضعيف يمكن الاستغناء عنه. من تواريخ القصائد ومواضيعها ولغتها يظهر أنها قصائد الحرب. (قطار حلب، دمشق الحرائق، خبر عاجل، تراتيل شامية). طبعاً ما أساء للشعر هنا ضغط الوصف والغرق في التفجع المباشر على البلاد والتقرير السردي لما يجري. « تقصف الطائرات المخابز في الحال يستشهد القمح ثم يموت الرغيف» (خبر عاجل) أو «وفي أيّ معترك وسماء يصير الطعام وسائل حربية ودروس إبادة» (خبر عاجل) أو «... فبي دنف وحنين إلى كل مطرح/ يا شاَم إلى كل زاوية وطوار/ فكيف السبيل وهذا النهار ظلام؟» (تراتيل شامية). مهما كان الموضوع حاراً، فإنّ الشعر يبرد حين يلتزم وصف ما يجري ولا يدخل منه أو من نافذة واحدة من نوافذه، إلى ما سمّاه عبد القاهر الجرجاني معنى المعنى. في حديثه عن الشعر يقول الجرجاني في «أسرار البلاغة». «هو فتح إلى مكان المعقول من قلبك باباً من العين» (تحقيق ريتر استنبول مطبعة وزارة المعارف 1954 ص 116). ولعلّ هيغل في مطالع العصور الحديثة يلتقي مع النظرة الثاقبة للجرجاني حين يعرف الشعر بالكليّ العيني. هذا الكلي العيني أو فتح باب من العين على القلب للوصول إلى معنى المعنى وهو الشعر لا يتم إلا بأدوات من استعارة وتشبيه ودوران ورمز فمعنى المعنى هو المعنى الشعري في الأشياء وهو يختلف عن المعنى الوصفي النقلي لها أو المعنى العلمي أو الفلسفي. ولكن ما فات هاشم شفيق في قصائد الحرب (من الصفحة 81 إلى آخر الديوان) من الشعرية، وقع عليه برهافة عالية في قصيدة النشيد الدمشقي. ولو كان لي أن أقترح، لكان اقتراحي هو اقتصار الديوان على هذا النشيد بأصواته الكثيفة والشفافة، وإعطائه عنواناً للديوان بدلاً من «شال شامي». الروح الشعرية للأشياء في مقاطع تتوالى متسلسلة من دون انقطاع، وتتحرّك كمويجات على شاطىء واحد، تتجلى الروح الشعرية لهاشم شفيق، في «النشيد الدمشقي». وما يجعل الفتى العراقي شامياً تشبّع مسامه وخلايا جسده بالأماكن الدمشقية بأسمائها، حاناتها، أسواقها، ناسها، أحيائها، والنساء، والأصدقاء: لؤي عبادة، بندر، وبساتين الغوطة، قاسيون وقبر الشيخ ابن عربي، الصالحية، السبع بحيرات، والدرب، باب توما، وحانة جورج، ومقهى هافانا وسوق الحميدية... وكل من يعرف دمشق يعرف هذه المعالم والأمكنة بأسمائها، لكنّ المسألة هي أنّ كل ما يلمسه هاشم شفيق في هذه الخريطة الدمشقية، من ناس ومقاه وحوانيت وأزقة، ومن نساء وأزهار، يتحوّل شعراً. وطريقته هي أن يوقظ الروح الشعرية النائمة أو المستترة في ما يتصل به أو ما يكون به على تماس. وهذه الروح الشعرية هي بمتناول الحس هنا، أي أن هاشم شفيق يحول الملموس والمرئي، والمحسوس المسمى باسمه إلى شعر. إنه يحسس المعنى (بقول الجرجاني) ويفتح عيناً على دواخل الأشياء والأشخاص ليصل كل شيء بعصبه الخاص ويحوّله إلى كيمياء إحساسية في القصيدة. والخاصية عنده هي أن تتقدم المشاهد اليومية المألوفة بين يديه واليوميات ونوافل العيش والعلاقة مثل انتظار قادم في مقهى الهافانا، احتكاك يده بيد امرأة في السينما، جمهرة شعراء ملتاثين في مقهى الروضة، انتظار الحب لدى قبر ابن عربي، قصة حب في سينما السفراء، غرفة بندر، قصة حب في رمضان... إلى مفارقة شعرية فكيف تولد القصيدة من هذا المألوف اليومي؟ العابر أو الهامشي والمعتاد ؟ كيف تولد القصيدة المعبرة من أمر نافل وربما صغير لمسة كتف لكتف مثلاً؟ الصيغة على العموم لدى هاشم شفيق إخبارية حكائية. إنه يروي القصيدة كحكاية. ومن أجمل قصائده، المقطع (12) من النشيد الدمشقي الذي يروي فيه حضوره في سينما «السفراء» لفيلم حول مغامرة فتى في الحب خاض نحو حبيبته الأهوال فلما وصل إلى بابها أخيراً ودق عليه «خرجت لترى جثة همدت في المطر/ فلم تكترث للمحبّ الذي قد خبا شكله والملامح/ حتى انتهى الفيلم». أثناء الفيلم كان الشاعر الراوي اهتدى (بالمصادفة) إلى امرأة إلى جانبه. إلى لمسة في الأصابع والفخذ، ثم إلى قبلة في الظلام. لكنّ المفارقة في القصيدة هي في نهايتها: إسقاط الفيلم على حاله هو «كنت أحدّق في شاشة السينما/ وأحس بأني غداً مثله سأكون/ مسجى أمام نوافذ منزلها». الحكاية أو القصة تحرّك القصيدة وتنقلها من جمود اللغة إلى حركة الحياة. والسرد الشعري لدى هاشم شفيق سرد مدرب ومؤثر. ففي المقطع (22) يصف نفسه وهو يتأمل في أحواله. يقول على (المتقارب): «وأنا جالس/ أتأمل شخصيتي والسلوك/ وبعض الطباع بمقهى السويس/ وأقرأ نفسي/ وما تيسر من صفحات ملوثة بالحروب ...» الخ ... لتأتي بعد هذا السرد التأملي المفارقة : وقوع فتاة (تدعي) أنها من حمص عليه ...» استقامت وقالت: أهذا الجمال يكون لفاتنة غير حمصية ؟ ... صمتّ وداريت ذاك المساء العجول». غالباً ما يتكلم الشاعر مع المحسوسات كأنها معان. في جرمانا (المقطع 37). وفيما يجلس في الشرفة يرتشف صائفته كانت - (هي) ... على الجهة الثانية تطل لتنشر بعض عواطفها في الشمس» أو يقول: «أمد مجساتي نحو مشاعرها» وهو إذ يضع اللمسات الخفيفة على الصورة، فإنه غالباً ما يضيف إليها إما الظلال أو الألوان التي تجعل من المشهد الطبيعي أو الموقف، فناً. ولا يكون ذلك من غير لمسة إيقاعية تضفي ما يشبه السحر على الواقع المرسوم أو المروي. فصيغ الشاعر على العموم، هادئة، وأقلوية. بل لعله يلجأ إلى نويات الأوزان الشعرية الهادئة تبعاً للحالات الموصوفة ... ثمة مثلاً ما يشبه الأرجوحة في تفعيلة «مفاعيلن» حيث في تكرارها إيقاع سرد إخباري هادىء «طويت العام بعد العام فيها لم أجد / في الترب غير الضوء والنعمى / صفاء ناعم يجتاحني فيها» (المقطع 3). والنواة النغمية في «مفاعلن» في المقطع (4) تساعد على أن يتسرب هدوء الحالة من خلال هدوء الصيغة «مستنبط مساحتي / في كل أرض كنت فيها / في حدائق السبكي / اتخذت مسكني ... « ...لكن الإيقاع المرح الخفيف في نواة المحدث (للأخفش) وهي فعلن، يناسب النص رقم (6) الذي يصف فيه الشاعر «حيّ الشعلان»: «في حي الشعلان / عثرت على فرح / مرمي في السوق ... لكن حين عثرت على فرحي هذا / ذي التنورة و الأقراط/ وذي الكعب العالي في الحال علا كعبي». صيغة التقليل، والتخفيف من المبالغة، ومغادرة الصيغ البلاغية القوية أو الثقيلة في اللغة وفي الأوزان المستعملة. هي دأب الشاعر على امتداد مقاطع بقصيدته. هل كل ذلك من سمات النصوص، لأنّ الشاعر يرى إلى الأشياء والسيرة عن مسافة وكأنه يتذكرها، أو يقف على أطلالها؟ وفي هذه المعاناة للزمن، هل كان لجوؤه لصيغة التصغير في الكثير من الأماكن ليقول خفر الحياة وحزنها وتواريها السريع. بل انهيالها من بين يديه كما ينهال الرمل من بين الأصابع؟ إن صيغة «فعيل» أو «فويعل» للتصغير تطفو في أكثر من مكان: «كان الشعر فويق سرير من غار»... نوافذي كويكب ينتعل الفضاء»، «كي اغتدي صويحب المكان»، «عبر ذلك الدريب العتيق»... أخيراً، تستيقظ بين يدي الشاعر الروح الشعرية للأشياء وكأنه يستعيد قول لامارتين في الخرائب: «أيتها الأشياء اللامتحركة. هل كانت لك روح تتصل بأرواحنا وبقوة الحب فينا؟».
مشاركة :