تحفل أرض المملكة العربيّة السعوديّة بعشرات المواقع التراثيّة المنتشرة في معظم أرجاء المملكة، لما تمثله المنطقة من بُعد حضاري وتاريخي تعترف به كافّة المنظمات الدولية التي تُعنى بالتاريخ الإنساني، وما خلّفه الأسلاف من إرث عمراني يدّل على تراكميّة مفهوم البناء وتجذّر فكرة الامتداد الوثيق فيما بين الماضي والحاضر. تلك المناطق التراثيّة ليست صمّاء أو مجرد كومة من الأحجار المصفوفة فوق بعضها، بل هي حضارة كانت قائمة ولا تزال في وجدان الشعوب المدركة لأهميّة الحفاظ على بُعدها التاريخي الذي تستمد منه عراقتها وأصالتها، ليس من أجل المفاخرة الجوفاء، وإنما كإرث يؤصّل لارتباط الإنسان بأرضه وهويّته ووطنه. العمل على إحياء التراث في المملكة لا يقف عند حدّ اكتشاف تلك المناطق وإعادة ترميمها وتوثيقها دولياً ضمن المواقع التراثية العالمية، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، وتحديداً في تحويل الأماكن الأثريّة والثريّة بعمقها التاريخي إلى وجهات سياحيّة، إذ ليس من المنطقيّ أن نجدها موصدة الأبواب وأمامها عشرات الحجّاب، وتتطلب زيارتها إجراءات معقّدة وتصاريح دخول يحتاج بعضها إلى أشهر حتى تصدر الموافقة. تجربة «الدرعيّة التاريخيّة» تُعد من أفضل التجارب المحليّة الناجحة في تحقيق مفهوم إحياء التراث بعد أن تحوّلت إلى وجهة ترفيهية وسياحيّة تكتظ بالسكّان، وهي حقاً تجربة تحتاج إلى استنساخ في كافّة المواقع التراثيّة بالمملكة، لتكون التحركات الإحيائيّة منطلقة من الإنسان وإلى الإنسان، تتفاعل معه وتشعر بوجوده وهو كذلك يبادلها الشعور الوجداني العميق الذي يعزز صلته بماضيه وثقافته وتاريخه. وفي ظل التوجّه الحكومي نحو تطوير البيئة السياحيّة في المملكة، وإيجاد رؤية تدمج بين السياحة والترفيه، فإن الإحصاءات الرسميّة التي تكشف عنها كبريات الدول تشير إلى أن الأماكن التاريخيّة تُعد من أهم عوامل جذب السيّاح، فقصر الحمراء في غرناطة الإسبانية مثلاً يزوره سنوياً أكثر من 3 ملايين، ومبنى الكولوسيوم في روما الإيطالية يشهد توافد ما يزيد عن 5 ملايين زائر، وسور الصين العظيم يقف على أطلاله 9 ملايين سائح. الاستراتيجيّة الطامحة إلى تحويل المملكة لوجهة سياحيّة دوليّة لا يمكنها العمل بمعزل عن إعادة تشكيل مفهوم التراث في أذهاننا. وما تضمّه أرضنا من أماكن تاريخيّة هي ليست ملكاً لنا وحدنا، إنما هي إرث إنساني من حق أي فرد زيارته، كما أنها في الآن ذاته تتماشى مع رؤية تفعيل الدور السياحي في تنمية الاقتصاد الوطني، ليس هذا فحسب، يمتد الأثر ليشمل الكشف عما تحمله الأراضي السعوديّة من أصالة وحضارة كانت ولا تزال مجهولة لدى أبنائها فضلا عن سائر الشعوب والأمم الأخرى.
مشاركة :