في السياسة لا تحدثني عن رحمة أو عواطف أو حقوق تاريخية، أو غيرها من المفردات الجميلة والمبادئ السامية، السياسة هي مصالح يتم التعامل بشأنها من خلال «فن الممكن» والبراغماتية وأي مصطلح أو لفظ يصب معناه في هذا المستنقع المسمى «سياسة». إردوغان الزعيم التركي الذي قد لا يزيحه عن عرش بلاد عثمان سوى ملك الموت، يتقلب بين مواجع المبادئ، ومتقاطعات المصالح، وإرهاصات الضغوط، ومتقلبات المناخ السياسي النشيط دائما هذه الأيام، بحسب أهل الأرصاد الجوية! تركيا بعد الانقلاب تختلف عما كانت قبله، قد أقول ظهرت حقيقة القوة الإردوغانية وصلابتها، وتبينت الحاضنة الشعبية الفارقة، التي غيرت الأحوال الانقلابية إلى حال جديدة، تختلف في نوعيتها ورسالتها حتى نظرتها القومية. وقد أقول إن ما حدث هو انعطاف تاريخي، وبزوغ فجر جديد ينهي فعليا السيطرة العسكرية على مفاصل الحكم، في هذه الدولة التي كانت عاصمة لآخر خلافة إسلامية. قبل الانقلاب قام إردوغان بعملين مهمين أثارا ضجة داخليا وخارجيا، ألا وهما ترميم العلاقة مع إسرائيل، وفي خطوة مفاجئة وخلال ساعات قام بمد جسور العلاقة من جديد مع روسيا، وبشكل لفت الانتباه، ثم كان الانقلاب الصدمة الذي غير وجه تركيا، وكان بفشله قد دشن مرحلة سياسية غير مسبوقة في بلاد الأناضول. لن أتطرق للأيام التي تلت الانقلاب وما ازدحمت به من مذابح إدارية، عمت جميع مفاصل إدارة الدولة، من عسكريين إلى قضاة ومدنيين، ولم يُوفَّر أحد في الملاحقات الأمنية، لدرجة أن «الشك» في أي شخص، ولو كان «إثما» فإنه سيقود المشكوك به إلى غياهب السجن، أو على الأقل مقصلة الإقالة، حيث أصبح الشعار الشهير لجورج بوش الابن إبان أحداث سبتمبر 2001: من لم يكن معي فهو ضدي، هو شعار الواقع الحقيقي للدولة الإردوغانية! بعدها حصل ما حصل في حلب، بتحقيق تقدم لافت للمعارضة، وكأن أحداث حلب، هي «الطائرة» التي أقلت زعيم الأناضول إلى سان بطرسبرغ، وتمت الزيارة المهمة ولقاؤه مع القيصر الروسي بوتين، وما تلا ذلك اللقاء من نتائج ملموسة، آخرها هو التوغل التركي في سورية، والتعاون مع الجيش الحر في جرابلس وإعزاز، ومعروف للمتابع أن مثل هذه الحملة لم تتم إلا بإذن روسي، وبتفاصيل لا خطوط عريضة متفق عليها فقط. وبعيدا عن تفاصيل لا يسع المقال ذكرها، يتبين أن الدافع الرئيس لتركيا، وراء أحداث كثيرة جرت في الفترة القريبة الماضية وتجري حاليا، هو خشية قيام دولة كردية، وواضح أن هناك رسائل معينة وصلت للجانب التركي، سواء كانت مشفرة أو بالتلميح أو حتى بالتصريح، ولا شك أن قيام دولة كردية يهدد أراضي تركيا وثلاث دول إقليمية مهمة، لذلك لن يتردد الزعيم التركي من مصافحة أي طرف في سبيل إيقاف قيام هذه الدولة ووأدها، فلا تستغرب وجود يلدريم في دمشق وعقده مؤتمرا صحافيا مع مسؤول سوري، فإردوغان الآن وفي هذه الفترة يبدو كالأسد الجريح، فما إن تخلص من غول الانقلاب حتى برزت ملامح بعيدة لدولة كردية، وهنا تكون الخطوط التركية الحمراء قد اخترقت، وقتها قد نرى تراجعات عن المبادئ وأولها عدم ممانعة عودة العلاقات مع الأسد! السياسة فن الممكن والضرورات تبيح المحظورات، وعدوك الآن هو حليفك غدا، مصالح تنقطع، ومصالح تربط، ولا أحد يبقى على حاله، ويقول المثل التركي الشهير «نهاية البكاء ضحكة».
مشاركة :