قارب حازم صاغيّة في مقالته «قوافل اللاجئين وصورة الغرب الكريه» («الحياة» 20/8/2016)، إشكاليات دقيقة مثيرة للجدل والنقاش، إذ رأى أن هجرة المثقفين العرب الى أوروبا التي كان لها الإسهام الأكبر في ما سمّي «النهضة العربية»، لم تقدّم من المعرفة بـ»الغرب» ما يذكر، فما قيل فيه لا يعدو كونه وصفاً إنشائياً وبرانياً يصعب اعتماده للفهم والتأويل. ولم يعلمنا المسار الممتد قرناً ونصف القرن ما يستحق الذكر عن السياسة وكيفياتها في مجتمع حديث، ولا عن أحوال المرأة والدين وسوى ذلك، فلم يبق من معنى لذلك الغرب سوى كونه سياسة استعمارية وقوة تعادينا. أجل، ثمة قصور ومحدودية مريبان في انفتاح العرب على الحداثة وتفاعلهم مع قيمها وأفكارها ومبادئها بما ينتشل المجتمعات العربية من انغلاقها على ثقافتها الفائتة ويدفعها في اتجاه الإبداع والمشاركة الفاعلة في حركة العصر الفكرية وثورته المعرفية. كما أنه من الواقعي أيضاً الاعتراف بفشل النخب الثقافية المهاجرة في التسلّل الى النسيج الاجتماعي العربي وإحداث صدمة تغييرية في داخله كتلك التي عرفتها أميركا واليابان إثر انفتاحهما على أوروبا. فقد ظل الحراك العربي تجاه الغرب بالإجمال حراكاً نخبوياً نهضت به نخبة خارجة على مجتمعها، وغير ذات جذور عميقة في بنيته. إلا أنه من الإجحاف القول أن فكر النهضة العربية لا يعدو كونه وصفاً برّانياً لحضارة الغرب أو أنه لم يقدم ما يستحق الذكر عن السياسة وأحوال المرأة والدين، أو أننا اختزلناه على صورة الضد لحقوقنا ومطامحنا. ففي هذا القول كثير من الظلم حتى لرواد النهضة العربية الأوائل من رفاعة الطهطاوي الى فارس الشدياق الى فرنسيس المراش وفرح أنطون وشبلي الشميل وأمين الريحاني وسواهم. لقد سبر هؤلاء وإن بدرجات متفاوتة، روح الحضارة الغربية وأفكارها وقيمها السياسية والاجتماعية والإنسانية، فأدركوا العقل الليبرالي الكامن وراء إنجازاتها العمرانية، ولم تكن «المساواة» فقط ما ألحوا عليه، بل إن النظام السياسي وحرية الاعتقاد وحقوق المرأة والثورة على التقاليد وتأكيد دور العقل ومركزيته في المجتمع والدين والسياسة، وهذه كلها من أساسيات الحداثة، قد ميزت في جانب كبير منها فكر روادنا النهضويين، على رغم إدانتهم استعمار الغرب وعدوانيته وتعاسة فقرائه. شدّد الطهطاوي على احترام الاختلافات في الدين وحرية التعبّد بسائر الأديان في الغرب، ونبّه الى تميّز الغربيين بـ»ذكاء العقل» ومكانة النساء المرموقة عندهم ونظامهم السياسي القائم على العدل، ومساواتهم قدام الشريعة. ولاحظ الشدياق تقدير الإنكليز للعلم والعلماء وحق النقد عندهم حتى في الدين ومساواة الناس في الحقوق البشرية، فضلاً عن وضع المرأة المميز. أما فرنسيس المراش فقد أوغل في كتابه «رحلة باريس» في خلفيات حضارة الغرب ليقول بـ»العقل» أساساً ورافداً لتلك الحضارة، وما تميزت به من اختراع وإبداع ونظم سياسية واجتماعية وثورة معرفية وتفانٍ في العمل. ولم يحل هذا دون إدانة الطهطاوي والشدياق والمراش في العمق عيوب الحضارة الغربية ومساوئها. إلا أن الجيل الراهن من الأصوليين، الرافض أصلاً كل قيم الغرب العقلانية والسياسية والاجتماعية، لا يريد أن يرى في الغرب سوى الاستعمار والصهيونية وانحلال الأخلاق. لقد استوعب مفكرونا الحداثيون منذ القرن التاسع عشر، استيعاباً نقدياً، أكثر قيم الحداثة فنادوا بالاحتكام الى العقل وفصل الدين عن السياسة والنظام السياسي الديموقراطي والعدل الطبقي، لكنهم إذ باؤوا بالفشل في إيصال هذه القيم الى الجماهير وغرسها في وعيهم وسلوكهم، تقدم الأصوليون الظلاميون ليختزلوا الغرب على «صورة الضد لحقوقنا ومطامحنا»، عابثين بكل تلك القيم التي لا خلاص لمجتمعاتنا من دونها. وقد آزرتهم في ذلك أنظمة ما بعد الاستقلال التي أمعنت في الظلم والفساد والاستبداد، حتى عاد كثر يحنون الى زمن الاستعمار الذي قدموا التضحيات وبذلوا دماءهم للخلاص منه. على أساس هذه الحقائق التاريخية، يجب أن نقرأ أزمتنا الحضارية الراهنة بدل أن نلقيها على مشجب فكرنا النهضوي الذي قدم تصورات حداثية إبداعية، وإن قاصرة، في البحث عن مخرج لهذه الأزمة التاريخية الممتدة، في ضوء حضارة الغرب وإبداعاتها غير المسبوقة. * كاتب لبناني
مشاركة :