.. كنت وما زلت مهتما بالطب، وفي مكتبتي مجلدات عن الطب، وأتابع كل ما يجد ويكتب في الطب الذي يقدم للعامة العاديين مثلي. وبمجلة أدمن على قراءتها هي «الريدرز دايجست» يكون دوما هناك باب عما يجدّ بالطب. وبما أني من زوار المستشفيات - وليس من زوار السفارات!- من صغري لمتابعة مزمنة عرفت بيئة المستشفيات وتقسيماتها وأنواع التخصصات والأقسام والطبقات العاملة فقد قضيت بها ردحا من الزمن أكثر من بيتي. والمستشفى بالنسبة لي قضية دراما، بل إني أحببت جو المستشفى وأفرح به، فبالمستشفيات كان تحصيلي المعرفي الحقيقي إن لم يكن كله، فهناك أقرأ متون الكتب ولا يمكنني إحصاء عدد الكتب التي قرأت، وبالمستشفيات تعلقت بعلم الحضارات «الأنثروبولجيا» فبأحد المستشفيات الكبرى بالمملكة كان هناك عشرات الجنسيات، وكنت أصادقهم ويخبروني عن بيئاتهم ولغاتهم وعاداتهم وثقافاتهم، وكأن الكرة الأرضية صغرت حتى صارت بجانبي، بسريري. واكتشفت شيئا مهما فيما بعد. أدركت أن الذي ربطني بعالم الطب ليس فقط العلم ولا البيولوجيا ولا الكيمياء ولا علم الأدوية ولا التشريح وإنما لأن لكل طبيبٍ قصصًا، قصصًا تختلف عن كل قصص أخرى. إنها قصص المواجهة مع أقصى الشجاعة الإنسانية، وأضعفها؛ قصص مع أقصى السعادة التي يعرفها بشري، ومع القصص الأشد ألما وحزنا؛ تجربة المشاعر الإنسانية في أقصاها من طرفيها، من حلاكة المنظر إلى بهاء المشهد باليوم الواحد بل باللحظة الواحدة. ولما بدأت طبيبة جديدة التخرج اسمها شيماء الشريف بالكنابة في الصحف، تناقشنا معا مرة وكان اقتراحي أنها وسط أكبر منبع للقصص في الدنيا، داخل أروقة المستشفيات، وتألقت الدكتورة شيماء في كشف بواطن طبقات المشاعر الإنسانية الصحية والنفسية وذاع صيتها، وهذا ما أنصح به الكتاب الجدد المتخصصين بالعلوم أن يكتبوا قصصا ومقالات من إلهامات عملهم وتخصصاتهم. المهم أن الطب بما لا يقبل جدلا الصنعة الأهم بالدنيا لأن الإنسان هو الأهم بالدنيا، والله أفصح لنا أن الإنسان هو القيمة الأعظم من بدء خلقه. أي أمة على وجه الأرض أول ما تهتم به هو الطب والأطباء والتمريض والعلوم الصحية. كوبا فقيرة بكل شيء لكنها من الأكثر تقدما طبيا، وإيرلندة تقدم للعالم افضل طواقم التمريض، وأمريكا أفخر المدارس الطبية.. وكما أن الصحة تاج، كذلك الطبيبة والطبيب كل منهما تاج بمجتمعه، وأمنية كل والدين أن يريا أبناءهما أطباء. يحدث الآن ما لا أكاد أن أصدقه؛ أطباء كلهم حيوية وعلم وطاقة ندرسهم افضل تدريس ونصرف عليهم البلايين ثم لا يجدون عقود عمل، كحق بدهي ليس من أجلهم بل من أجلنا كلنا.. هنا يطير العقل، وجهة كبرى تنهي عقود اتفقت عليها مع الأطباء الجدد وهم آمالنا بالتقدم الصحي الذي بنينا عليهم خططنا المستقبلية. مع كل دهشتي، وحزني، وشفقتي علينا كلنا.. أسأل: يا جماعة، وش السالفة؟!
مشاركة :