د. أيمن شبانة يبدو أن اندلاع الاشتباكات المسلحة بين القوات الموالية لسلفاكير ميارديت رئيس جنوب السودان ونائبه المقال رياك مشار، وهروب الأخير خارج البلاد قد كتب كلمة النهاية لاتفاق تقاسم السلطة الذي وقعه الغريمان قبل عام، والذي لطالما راهنت عليه القوى الإقليمية والدولية كمخرج للصراع المحتدم في الدولة الوليدة. بالرغم من محاولات رأب الصدع بين الطرفين، والسعي لنشر قوات إقليمية لحفظ السلام، إلا أن معظم التوقعات تنبئ بأن الأسوأ لم يأت بعد، وأن دولة الجنوب أصبحت تقف على حافة الهاوية، وأنها ربما تنزلق إلى أتون الإبادة الجماعية. كثيرة هي المعطيات التي ترجح استمرار مسلسل العنف في جنوب السودان، ومنها الخلاف حول طبيعة وشكل التدخل العسكري في البلاد، وتباين المواقف الإقليمية والدولية في هذا الشأن، وعدم توافق أطراف الصراع حول ذلك التدخل، وضعف فاعلية العقوبات الدولية المحتملة كأداة للضغط على أطراف الصراع، وانعدام الثقة بينها، والانشقاق الذي اتسع داخل التحالف المعارض، وتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل كارثي بات يستعصي على الاحتواء. فبعدما تبين عدم قدرة أطراف الصراع على إدارة العلاقات بينها بشكل مباشر خلال المرحلة الانتقالية التي حددها اتفاق تقاسم السلطة، طالب المراقبون بالتدخل العسكري لحفظ السلم في البلاد. فبادر الاتحاد الإفريقي خلال قمته السابعة والعشرين في كيغالي في يوليو/تموز 2016 بالموافقة على نشر قوة إقليمية لهذا الغرض تحت رايته، دون تحديد لماهيتها أو الجدول الزمني لنشرها. لكن هذا الطرح - رغم قبول سلفاكير به- قوبل بمعارضة الولايات المتحدة، التي تحفظت على قيادة الاتحاد الإفريقي للقوة. وقدمت رؤية بديلة ضمنتها في مشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي، يقضي بنشر قوة إقليمية، قوامها أربعة آلاف عنصر، تحت قيادة بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان يوناميس، وأن يكون مقرها جوبا، وأن تستمر ولايتها حتى الخامس عشر من ديسمبر/كانون الثاني القادم، مع التمديد ليوناميس لنفس المدة. وافق مجلس الأمن على نشر القوة الإقليمية المقترحة خلال قراره رقم 2304 في الثاني عشر من أغسطس/آب الماضي، على أن تتضمن مهامها توفير بيئة آمنة في جوبا وما حولها، ومراقبة وقف إطلاق النار، ودعم الترتيبات الأمنية الانتقالية في العاصمة وأي مناطق أخرى حسب الحاجة. وأن يكون لها الحق في استخدام كافة الوسائل الضرورية لتنفيذ أهدافها، في إشارة ضمنية إلى القوة المسلحة، وأن يكون لها استراتيجية واضحة للخروج من جنوب السودان عقب انتهاء مهامها. ضغطت واشنطن لنشر القوة الإقليمية على وجه السرعة بحلول سبتمبر2016. فاجتمع وزير خارجيتها جون كيري في نيروبي ببعض نظرائه من دول الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا إيجاد، ليؤكد الاستعداد لتحمل بلاده لنفقات نشر القوة ودعمها لوجستياً، مع التهديد بحظر تصدير السلاح إلى جنوب السودان، وعقوبات أخرى تنتظر كل من يعرقل نشر القوة، تشمل حظر السفر، وتجميد الأرصدة، وإحالة ملف انتهاكات حقوق الإنسان بجنوب السودان إلى مجلس الأمن الدولي ثم المحكمة الجنائية الدولية. لكن يبدو أن هذه الرؤية الأمريكية لا تتمتع بالتأييد اللازم دولياً وإقليمياً، بدليل تحفظ أربعة من أعضاء مجلس الأمن الدولي عليها، وهم روسيا والصين ومصر وفنزويلا. وكذا الغياب غير المبرر عن لقاء كيري لثلاثة من وزراء خارجية دول إيجاد، وهم وزراء خارجية إثيوبيا (قائد مباحثات التسوية في دولة الجنوب)، وأوغندا (الداعم الإقليمي الأبرز لسلفاكير)، وجيبوتي (دولة المقر لمنظمة إيجاد). وهو ما يعكس فتوراً في تقبل القوة الإقليمية وفق قرار مجلس الأمن الدولي. كما أن فاعلية العقوبات كورقة ضغط على أطراف الصراع في الجنوب تظل أمراً مشكوكاً فيه، بما في ذلك حظر السلاح، في ظل تكدس الأسلحة في دولة الجنوب، خاصة السلاح الخفيف، وعدم إحكام السيطرة على حدودها مع دول الجوار، وتدفق الأسلحة إليها بشكل غير مشروع. والأكثر أهمية هو رفض سلفاكير ونائبه الأول الجديد تابان دينغ لنشر القوة المقترحة تحت قيادة بعثة يوناميس، وإعلان جوبا تعليق تعاونها مع الأمم المتحدة، بدعوى انتهاكها لسيادة البلاد، وتجاهلها لقواعد نشر بعثات السلام الدولية، التي تقتضي موافقة سلطات الدولة التي يتم نشر البعثة على أراضيها. في المقابل رحب مشار بنشر القوة الإقليمية، واعتبرها شرطاً مسبقاً لعودته لجوبا. ولكنه تحفظ على مشاركة بعض الدول فيها وعلى رأسها أوغندا. وهو ما يرجح تحول القوة إلى طرف من أطراف الصراع، لتصبح هدفاً محتملاً لأسلحة المقاتلين، بما يستدعى حالة الصومال 1992-1994، عندما منيت بعثة الأمم المتحدة فيها بأكبر خسائر في تاريخها آنذاك. من ناحية أخرى، فإن نشر القوة المقترحة لن يكون كافياً لتجسير الفجوة بين سلفاكير ورياك مشار، أو احتواء الانشقاق داخل معسكر المعارضة. فتجربة التعايش خلال المرحلة الانتقالية بين الرئيس ونائبه المقال أثبتت فشلها، بعدما أكد مشار تعرضه لأكثر من محاولة للاغتيال، عبر تفجير محل إقامته في جوبا، وتعقبه في أدغال ولاية غرب الاستوائية، وهو ما اضطره إلى اللجوء إلى الكونغو الديمقراطية، قبل أن يستقر به المطاف في السودان، طلباً للعلاج وتوخياً للأمن، خوفاً من تصفيته مثلما حدث من قبل مع كاربينو كوانين وجورج أتور. كما أن إقدام سلفاكير على عزل أربعين من نواب البرلمان وستة من الوزراء الموالين لمشار، بناء على توصيه من تابان دينغ، وتعيين آخرين محلهم، ينتمون إلى جماعة النوير الإثنية، يعكس نبرة التحدي لمجلس الأمن والاستخفاف بالعقوبات المنتظرة. ويؤكد إصرار سلفاكير على إخراج مشار من المعادلة السياسية، وهو ما أكدته تصريحات المتحدث باسم حكومة الجنوب عندما طالب مشار بضرورة التخلي عن العنف وعن ممارسة العمل السياسي حتى إجراء الانتخابات عام 2018 كشرط لعودته إلى جوبا. كما أن الإجراءات التي اتخذها سلفاكير من شأنها تعميق الفجوة داخل المعسكر المعارض، خاصة بعد عزل مشار لتابان دينغ من منصبه كنائب له في حركة المعارضة، وتغير لغة خطاب الأخير من الاستعداد للتخلي عن منصبه في حال عودة مشار لجوبا إلى إمكانية تجاوز مشار، والمضي في تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية، وهو ما دفع الأخير إلى التهديد باقتحام جوبا، وإسقاط نظام سلفاكير بالقوة المسلحة. وبالرغم من الشكوك التي تحوم حول قدرة مشار على اقتحام جوبا وإسقاط نظام سلفاكير، بعدما ضعفت قوته المسلحة، وانفرط عقد تحالف المعارضة، إلا أن الشيء المؤكد هو أن جنوب السودان سوف تشهد موجات قادمة من العنف، وربما الإبادة الجماعية، وهو ما يفسر هروب المواطنين من جوبا بين نازح ولاجئ للنجاة بحياتهم، التي أضحت مهددة بحرب عبثية بين قيادات لا تكترث سوى بالسلطة، بعد أن صمت آذانها عن الاستماع للتحذيرات الدولية المتكررة من كارثة إنسانية مروعة تنتظر مواطني الجنوب. *مدرس العلوم السياسية- معهد البحوث والدراسات الإفريقية (جامعة القاهرة)
مشاركة :